عائشة حسين

 

في رحلة طوافها اليومي حول شوارع المدينة وأزقتها على كرسي متحرك، توزع أنفاس الطبيعة على هيئة فل أبيض، وتسعد عيون المارة بما طرزته أناملها من عقود وتيجان وقلائد وأشرطة تتخللها زهرات ذات ألوان زاهية فيما يشبه منمنمات فنية.

زهرة علي أحمد، سيدة في الستين من عمرها، أجبرتها صعوبات الحياة ولقمة العيش على التنقل بين شوارع مدينة الحديدة، غربي اليمن، لتبيع زهور الفل وتداري معاناتها بما يعود عليها هذا العمل من دخل زهيد.

الحد الأدنى

في إحدى الزوايا الضيقة لسوق "باب مشرف" حيث تنتهي رحلتها، تجلس السيدة زهرة لتبيع بعض عقود الفل وتيجانه دون أن تبرح كرسيها المتحرك، فعلى الرغم من إصابتها بشلل نصفي أقعدها عن الحركة منذ ما يقارب عشر سنوات، لا تزال تعمل في بيع الفل الذي أصبح يخفف عنها شيئًا من مشقة العيش، تقول في حديثها لـ "هودج" إنها تقوم بحياكة الفل وتشكيله وبيعه منذ 27 عامًا، وتجني منه ما تسد به رمقها وعائلتها باعتباره مصدر رزقهم الوحيد.

"في الصيف يكثر الإنتاج فيقل سعر أكياس الفل، ما يساعدنا نحن بائعي البسطات على توفير دخل معقول، لكن الحال يختلف في الشتاء"

تضيف زهرة: "قبل 28 عامًا تقاعد زوجي عن عمله في الميناء بسبب مرض خبيث أصابه، ولأن راتبه التقاعدي لم يكن كافيًا، اضطررت للعمل بغرض توفير الدواء له والمساعدة في تحسين مستوى المعيشة".

ساءت حالة زوجها، فتوفي تاركًا إياها وابنتها لمصيرهما، كما تقول، لكنها استمرت في العمل لتتمكن من العيش مع بنتها ولو في الحد الأدنى، مؤكدة أنه مر 14 عامًا على وفاة زوجها، و10 سنوات على وضعها الصحي السيء بعد إصابتها بشلل نصفي أقعدها عن الحركة، "لكن للحياة احتياجاتها، ولا بد من العمل مهما كان الحال".

في سبيل العيش الكريم

تعمل زهرة منذ الصباح الباكر حتى الغروب لتوفير قليل من المال يعينها وابنتها على مواجهة صعوبات المعيشة، حيث تخرج في ساعات الصباح الباكرة لتشتري كيس الفل القادم من مناطق إنتاجه، وفيه تكون الزهور منثورة ومتفرقة؛ لذا تأخذها للبيت لتشكلها مع ابنتها على هيئة عقود وتيجان وشرائط حتى منتصف اليوم، ثم تذهب للسوق لبيعها في النصف الآخر من كل يوم، كما تقول.

وبحسب السيدة زهرة، يحتوي كيس الفل قرابة 5000 زهرة، مضيفة بأنها تشتري كيس الفل في فصل الصيف بـ 2500 ريال يمني من مزودي السوق (المزارعين)، أي ما يعادل 4.17 دولار، فيما يصل سعره في الشتاء إلى 10 آلاف ريال يمني (16.67 دولار)، أي نحو أربعة أضعاف السعر في الصيف.

وفاة الأب ومرض الأم وسوء الحالة المعيشية دفعت بفتحية للتوقف عن الذهاب إلى المدرسة، والبقاء من أجل الاعتناء بأمها ومساعدتها في توفير لقمة العيش"

وتوضح زهرة: "في الصيف يكثر الإنتاج فيقل سعر أكياس الفل، ما يساعدنا نحن بائعي البسطات على توفير دخل معقول، لكن الحال يختلف في الشتاء، حيث يقل الوارد إلى السوق وترتفع الأسعار؛ لذا لا نحصل على أكياس الفل بشكل دائم، ما يجعلنا نتوقف عن العمل لأيام، وقد نحاول معالجة الأمر ببيع المشاقر خلالها".

حياة عصيبة

ما تزال تلك اللحظات العصيبة باقية في ذاكرة فتحية الابنة الوحيدة لزهرة، تقول: "قبل عشر سنوات أصيبت أمي بوعكة صحية في إحدى الليالي، نقلت على إثرها للمستشفى، وأصبحت من بعدها مشلولة مقعدة".

لم تقف الإصابة بالشلل عائقًا أمام زهرة، حيث استمرت في مواصلة عملها في مجال بيع الفل متنقلة بكرسيها المتحرك، في حين تهتم فتحية بدفعها ذهابًا وإيابًا، ومساعدتها على إعداد تشكيلات الفل في المنزل.

تأتي زهور الفل في مقدمة تلك المنتجات التي تشتهر بها محافظة الحديدة، حيث يتوافد إلى هذا السوق منذ الصباح الباكر معظم زارعي الفل لبيع منتجاتهم منه

وفاة الأب ومرض الأم وسوء الحالة المعيشية دفعت بفتحية للتوقف عن الذهاب إلى المدرسة، والبقاء من أجل الاعتناء بأمها ومساعدتها في توفير لقمة العيش الأساسية، أما الأم فما تزال ابتسامة الرضا تشرق على أسارير وجهها، على الرغم من هزالة الجسد وصعوبات الحياة اليومية وقساوة المرض.

تتلخص حياة هذه الأسرة في كلمتين اثنتين هما "حياة عصيبة"، إلا أن تلك التفاصيل الشديدة في حياة زهرة وابنتها لم تحل دون استمرارها في كسب لقمة العيش بطريقة كريمة من خلال ما تبيعه من زهور الفل، والتي تجمل بها أنفاس وروائح الحياة حين تكون قاسية.

ملتقى زهور الفل

وتعتبر محافظة الحديدة بمينائها الحيوي أحد موارد الدخل الأكثر أهمية في اليمن، لكنها تأتي من حيث مستوى الخدمات في ذيل القائمة، حيث تفتقر لمعظم الخدمات الأساسية، والتي إن وجدت فهي الأكثر رداءة، كما يقول منصور، وهو مواطن عاطل عن العمل، ويضيف: "على الرغم من أن تهامة تعد السلة الغذائية لليمن، والمنطقة الأعلى خصوبة زراعية وإنتاج حيواني، وعلى الرغم من وجود العديد من المصانع والصناعات المختلفة فيها، إلا أن المواطن التهامي هو المواطن الأشد فقرًا في اليمن".

ويعد سوق "باب مشرف" أحد أكبر وأقدم الأسواق الشعبية في مدينة الحديدة، ويشتهر بكونه مركزًا لبيع السلع والمشغولات والمنتجات الزراعية المحلية، وتأتي زهور الفل في مقدمة تلك المنتجات التي تشتهر بها المحافظة، حيث يتوافد إلى هذا السوق منذ الصباح الباكر معظم زارعي الفل لبيع منتجاتهم منه، والذي يستخدم في مختلف الطقوس الفرائحية والاحتفالية في الحديدة ومختلف محافظات اليمن.

وتنتشر زراعة زهور الفل، أو كما تعرف بـ "زهور تهامة"، في كثير من مناطق ومديريات محافظة الحديدة التهامية، والتي تعد مصدرًا رئيسيًا لتصدير هذه الزهرة البيضاء إلى معظم المحافظات اليمنية الأخرى.

وتأتي قرى معيدة في مديرية الزهرة، والمغراس في مديرية التحيتا، والمناوية واللاوية في مديرية الدريهمي، والعباسي في مديرية بيت الفقيه، وأرياف وضواحي مديرية الزيدية، في مقدمة المناطق المُنتِجة للفل، ويعد الفل العباسي أكثر الأنواع شهرة وطلبًا بسبب جودته العالية، ورائحته الزكية المميزة مقارنة بالأصناف الأخرى، بحسب محمد علي، أحد مزودي بائعي الفل في سوق باب مشرف.