عبدالملك الأغبري
لم تكن مريم، دون العشرين ربيعًا، من مديرية مزهر، بمحافظة ريمة (غرب اليمن)، تدرك أن صورةً شخصية يمكن أن تضع حدًا لحلمها في إكمال تعليمها.
بدأت الحكاية، حين طلبت مَدرسة مريم صورًا شخصيةً ليتم وضعها على رقم الجلوس وأخرى في الشهادة النهائية للصف التاسع، كإجراء روتيني تُطالب به مدارس الجمهورية.
لكن فتاة تفاجأت عندما رفضت أسرتها التصوير؛ كون تصوير فتاةٍ يُعد عيبًا وتجاوزًا للأعراف.
ففي كثير من المناطق اليمنية، لا يزال العُرف يتسيّد الموقف، حتى في تفاصيل صغيرةٍ، كصورةٍ شخصيةٍ مطلوبة لاستمارةٍ دراسية، تتحول إلى عائقٍ يمنع فتاةً من مواصلة تعليمها.
هذه الصورة، وإن بدت للآخرين إجراءً روتينيًا، إلا أنها في بعض المناطق الريفية تمثل انتهاكًا لمفاهيم "العيب"، وتتصدر الأعراف كقيدٍ يلتف حول مستقبل الكثير من الفتيات.
تقول مريم: "طوال مرحلتي الدراسية كنتُ من الأوائل، وحرصتُ على النجاح بجهدي، دون اللجوء للغش كما يحدث كل عام؛ لأنني كنتُ أعرف أن اختبارات القبول في الجامعة لن تكون سهلة، وأن أهلي لا يستطيعون تحمل تكاليف الدراسة بنظام النفقة الخاصة أو الموازي".
وتزيد: "لذلك؛ كنتُ أجتهد بكل طاقتي لأحصل على تقديراتٍ عاليةً تمهيدًا لمستقبلٍ جامعي أُحقق فيه طموحي".
وتضيف: "بعد الانتهاء من امتحانات الصف الثامن، بدأتُ على الفور مذاكرة منهج الصف التاسع. كنتُ أستغل كل لحظة فراغ في المراجعة والحفظ، باحثةً عن التفوق، وحالمةً بمعدلٍ مشرّف يُرضيني ويجعل عائلتي فخورةً بي".
وتتابع بأسى: "لكن للأسف، تبخر كل شيء. ولم أكن أتخيّل يومًا أن تكون صورة شخصية سببًا بتحطيم حلمي، لينتهي بي المطاف في المنزل، أتنقل بين المطبخ وجلب الحطب ورعي الأغنام".
"المشكلة أننا لم نُحرم فقط من اتخاذ القرار، بل حتى من حق النقاش أو الحوار. لا يمكننا أن نُعبر عن رأينا، أو حتى نُناقش ما يخص حياتنا".. تشير مريم إلى جانبٍ آخر من المعاناة.
وتعتقد أن المشكلة ليست فقط عائلية، لكنها قائمة على بنيةٍ اجتماعيةٍ تقليدية تُصادر صوت الفتاة منذ الطفولة، وتُربّيها على الطاعة المطلقة والخوف من الاعتراض.
مريم تُرجع أسباب ذلك إلى أن الأهالي ينظرون للحوار وكأنه تمرد، وللرغبة في تقرير المصير كأنها وقاحة. وكل ذلك يغذي ثقافة الصمت والخضوع، ويُنتج أجيالًا من النساء مسلوبات من أبسط حقوقهنّ، كالحق في تقرير مصيرهنّ والتعبير عن ذواتهنّ.
الخلط بين التقاليد والدين
أستاذ مساعد علم الاجتماع بجامعة عدن، رئيسة منصة المرأة المستقلة، الدكتور رانيا خالد، ترى أن هذه الظاهرة تعبّر عن إشكاليةٍ اجتماعيةٍ متكررة في بعض البيئات، حيث يُخلط بين العادات الاجتماعية والتعاليم الدينية الصحيحة.
وتقول: "إن الصور المطلوبة ضمن الإجراءات الرسمية في المدارس لا تتعارض مع الدين، وحرمان الفتاة من التعليم لمجرد عدم تقديم صورةٍ رسمية لا يستند إلى أساس شرعي".
وأشارت المختصة الاجتماعية إلى أن هذا الفعل يعكس هيمنة ثقافة العيب الاجتماعي التي تُقدم أحيانًا على حقوق أساسية، مثل الحق في التعلم.
الدكتورة رانيا حذرت من منع الفتيات من التعليم بمبررات اجتماعية أو دينية مشوشة، يعرضهنّ لنتائج سلبية على مستوى المستقبل والاستقرار النفسي والاجتماعي.
معتبرةً أن "الدين لم يكن يومًا عائقًا أمام تعليم البنات، بل حثّ على العلم للجميع".
وتتابع: "ما يحدث لا يمكن قراءته بمعزلٍ عن الدور الحاسم للأسرة، بوصفها الحاضن الأول للوعي والقيم والتوجهات المستقبلية للفتيات".
"حين تتحول الأسرة من مصدر دعمٍ إلى مصدر قيد، فإن الفتاة تجد نفسها محاصرةً بين الخوف من كسر تقاليد المجتمع، والخسارة الفادحة لمستقبلها الدراسي والمهني".. تقول الدكتورة رانيا.
وتشدد على أن مسؤولية الأسرة لا تقتصر على الحماية الجسدية، بل تمتد إلى الحماية النفسية والعقلية، عبر ترسيخ مفاهيم صحيحة عن الدين، والتربية، والكرامة الإنسانية.
وأضافت: "حين نمنع الفتاة من الدراسة بدعوى صورةٍ شخصية، فنحن لا نحافظ على حيائها، بل نقيّد حريتها ونمنعها من أدوات النهوض بذاتها".
وترى الأكاديمية المختصة أن المجتمعات اليوم تحتاج إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة، وتكريس ثقافةٍ تربوية مرنة تفصل ما هو ديني عن ما هو تقليد اجتماعي.
واختتمت: "تمكين الفتيات يبدأ من البيت، بالكلمة، الموقف، والقرار الحاسم بأن التعليم حقٌ غير قابل للمساومة".
صدمات نفسية مبكرة
يشير أستاذ قسم الإرشاد النفسي بجامعة تعز، الدكتور عدنان القاضي، إلى أن منع أي فتاةٍ من مواصلة تعليمها بسبب رفض الأسرة تقديم صورةٍ شخصيةٍ مطلوبة لأغراضٍ مدرسية إدارية، يحمل في طياته آثارًا نفسيةً واجتماعيةً عميقة قد تلازم الفتاة لسنوات.
وأوضح أن هذا النوع من المنع في مرحلةٍ عمرية حساسة مثل الصف التاسع، حين تبدأ الفتاة في بناء هويتها وتقديرها لذاتها، يشكل صدمةً نفسيةً مبكرة.
"وقد تشعر الفتاة بأنها "مذنبة" أو أن هناك "عيبًا" في صورتها، ما يزرع شعورًا بالخزي ويهز ثقتها بنفسها، ويدفعها لتكوين صورةٍ سلبية عن ذاتها".. يكمل القاضي.
وأضاف: "ربط الصورة الشخصية بمفاهيم مثل "الحرام" أو "العيب" قد يولد لدى الفتاة تصورًا مشوشًا تجاه جسدها، وربما تبدأ في النظر إليه كعبءٍ أو مصدر تهديد".
مواصلًا: "هذا يؤثر على علاقة الفتاة بنفسها ويقودها إلى الانسحاب أو الانغلاق الاجتماعي، ويُضعف فرص تطورها الشخصي والمعرفي".
ولفت الأكاديمي بجامعة تعز إلى أن تقديم الصورة كفعلٍ "غير أخلاقي" يُحمّل الفتاة وصمةً داخلية، يجعلها تعيش صراعًا مؤلمًا بين رغبتها في التعليم وحاجتها للقبول الأسري.
محذرًا من أن هذا قد يولد لديها مشاعر غضبٍ ورفضٍ صامت تجاه الأسرة أو المجتمع، خاصةً إذا شعرت أن مستقبلها يُصادَر لأسبابٍ لا تفهمها أو لا تؤمن بها.
ويضيف القاضي أن مثل هذه الصدمة قد تخلخل علاقة الفتاة بأسرتها، وتؤثر على قدرتها في بناء علاقات صحية مستقبلًا، وتتفاقم لتصل إلى أعراض اكتئابٍ شديدة أو حتى أفكارًا انتحارية، خصوصًا إذا كانت الفتاة طموحة وتقارن نفسها بمن واصلن تعليمهنّ.
معتبرًا أن الحرمان من التعليم يكرس لدى الفتاة الشعور بالعجز والدونية ويعزز الاتكالية والتبعية، وتصبح أقل قدرةً على الدفاع عن نفسها وحقوقها.
ويخشى القاضي من أن تتحول هذه الفتاة إلى أداةٍ لإعادة إنتاج القمع، بتبني ذات المفاهيم التي قُيدت بها، وتفرضها لاحقًا على بناتها.
مختتمًا بتجديد تحذيره من "السخط النفسي" الناتج عن هذا المنع، الذي قد يتطور لاحقًا إلى سلوكٍ عدائي غير مباشر تجاه المجتمع، كرد فعلٍ لا إرادي على شعورها بالخذلان والتهميش.
تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع تعزيز دور وسائل الإعلام في دعم قضايا الصحة الإنجابية والعنف القائم على النوع الاجتماعي الذي ينفذه مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي
.png)
