سامية الصامتي

رغم ما يردده الكثيرون عن ضرورة مواكبة العصر، ما تزال بعض المناطق في محافظة البيضاء (وسط اليمن)، تعيش تحت وطأة عاداتٍ قبلية صارمة تقف حجر عثرة أمام تعليم الفتيات وخروجهن للعمل.

فالثورة الحقيقية -كما يقول الأهالي أنفسهم- هي ثورة قيم، لكن هذه الثورة تُجهَض كلما اصطدمت بسياط التقاليد المتوارثة.

الأحلام، في نظر الفتيات، "لها جناحان قويان: الإصرار والعمل… وما يكسرهما هو سيف العرف".

من هنا تبدأ قصة "حماس" (اسم مستعار)، وهي واحدة من مئات الفتيات اللاتي سحقتهنّ القيود الاجتماعية، فوجدنَ أنفسهنّ بين شغف التعليم وطموح الاستقلال من جهة، وبين رفض الأسرة وتشدد القبيلة من جهة أخرى.

رحلة محفوفة بالعقبات

تقول "حماس": "منذ كنت في الصف الأول، لم أعرف غير المركز الأول بين زميلاتي. كنا في منطقتنا لا ندرس سوى إلى الصف السادس. لاحقًا، قررت المدرسة فتح الصف السابع ثم التاسع، وكنتُ مصممة على إكمال تعليمي، لكن قوبلت برفضٍ شديد من أهلي، لأن استمرار الفتيات بالدراسة يُعد مخالفةً للتقاليد".

وتضيف حماس: "كنتُ أحب التعليم كثيرًا، لكن الضغوط كانت شديدة. والدي كان يهدد بإخراجي من المدرسة، وكان ذلك يكسرني.

بعض الفتيات تعرضنّ للضرب لأنهنّ أردنّ إكمال الدراسة. ومع ذلك، واصلنا حتى الثانوية بشق الأنفس".

تحولات حذرة

في محاولة للتوفيق بين الضرورة الاقتصادية والقيود الاجتماعية، لجأت عديد أسرٍ إلى خيار العمل من المنزل كحلٍ وسط، وأصبحت فتيات يزاولنّ أعمالًا بسيطة كالخياطة، الطبخ المنزلي، أو التجارة الإلكترونية، وهي أعمال توفر دخلًا محدودًا وتغيب عنها فرص النمو والتطور.

وتعليقًا على هذه الظاهرة، تقول أستاذة علم الاجتماع، أشجان مساعد: "ما يُمارس على الفتيات في هذه المناطق لا يمكن وصفه إلا بأنه شكل من الوصاية الاجتماعية المغلفة بالعرف".

وتضيف: "تُمنح الفتاة الحق في التعليم أحيانًا، لكن تُسلب منها حرية اختيار مستقبلها المهني، وحتى عندما تلتحق بالعمل، تلاحقها القيود نفسها داخل بيئة العمل وخارجها".

وتزيد: "الضغط الاجتماعي لا يوقف الفتاة عند حد اختيار وظيفةٍ معينة، بل يمتد ليحد من تطورها داخل المؤسسة نفسها، فكثير من العاملات يتجنبنّ السعي للترقية أو تولي المناصب القيادية خوفًا من ردود الفعل، فيبقى حضورهنّ في الأعمال محدودًا وغير مؤثر بالشكل المطلوب".

وتشير إلى أن كل هذه القيود من "ثقافة العيب" إلى الوصاية القبلية؛ تُسهم في تردي مستوى مشاركة المرأة في القوى العاملة، كما تؤكد الإحصاءات الرسمية. وهو ما ينعكس ليس فقط على مستقبل الفتيات، بل على النمو الاقتصادي للمجتمع بأكمله.

لم تكن "حماس" سوى نموذج صغير من واقع واسع. فبحسب تقارير البنك الدولي ومنظمة العمل الدولية لعام 2024، تبلغ نسبة مشاركة النساء في سوق العمل في اليمن 4.9% فقط، أي أن 95.1% من النساء خارج سوق العمل، وهو من أدنى المعدلات عالميًا.

تجارب وعقوبات

تبرز "سمية" كواحدة من الفتيات اللاتي حاولنَ كسر هذا الطوق، بإصرارها على الخروج للعمل رغم المعارضة الشديدة من أسرتها.

وفي تفاصيل قصتها تقول: "أول عمل لي كان يبعد عن منطقتي بنحو 20 كيلومتر، فواجهتُ صعوباتٍ في التنقل، وكان ممنوعًا الذهاب بمفردي، لذلك رافقتُ صديقتي ووالدها، لكن أحيانًا لا تتوافق مواعيد ذهابها مع أيام عملي، ما خلق تحدياتٍ جديدة".

"كنتُ أول امرأة في عائلتي ألتحق بسوق العمل؛ ما عرّضني للاستهجان والرفض داخل المنزل، فوالدتي لم تتقبل فكرة غيابي عن البيت لساعات، وأخي يهددني بالضرب مرارًا وبصوت مرتفع يسمعه والدي الذي لم يحرك ساكنًا".. تقول "سمية".

ووصفت "سمية" السفر بأنه لم يكن سهلًا، في ظل الأوضاع التي تمر بها اليمن، ولكن الإصرار دفعها -رغم ترددها- بالانتقال إلى محافظةٍ أخرى، معبرةً عن شكرها للأخصائية النفسية "سلسبيل" التي وقفت معها خلال رحلتها.

وقالت: "الأخصائية سلسبيل دعمتني كثيرًا وعلمتني استثمار الفرص بدلًا من أن أسمح للظروف بهزيمتي، ففتح كلامها أبوابًا لم أكن أراها".

"سمية" تعتبر نهاية العام 2023 اللحظة الفاصلة في حياتها، إذ بدأت العمل في مدرسةٍ أهليةٍ بالمحافظة الجديدة؛ لتدخل بعدها في سباقٍ مع الوقت.

فكانت تعمل صباحًا حتى الظهيرة، ثم تعود إلى المنزل؛ لتتجه بعدها إلى معهدٍ للدراسة حتى العصر، ثم حصلت على فرصة عملٍ في المعهد نفسه؛ ليمتد عملها إلى المغرب.

وتتابع بفخر: "درستُ الرخصة الدولية وحصدتُ المركز الأول، ثم التحقتُ بالجامعة، وأنا اليوم أقف شامخةً أمام كل التحديات، وكأنها لم تكن سوى ذكريات بعيدة".

قراءة قانونية

وحول الوضع القانوني لدور القبيلة تجاه الفتيات، يرى المحامي عبدالرحمن الهندوان، أن "حماية المرأة وحقها بالتعليم والعمل "حق راسخ" يكفله القانون اليمني، ولا يمنح أي جهة قبلية أو أسرية السلطة لمنعها من ذلك".

وبيّن الهندوان أن "دور القبيلة يجب أن يكون داعمًا لهذه الحقوق، لا بديلًا عنها، فالأعراف لا ينبغي أن تُستخدم كحاجزٍ يحول دون وصول المرأة لحقوقها الشرعية والقانونية".

لافتًا إلى أن التطور الاجتماعي يستلزم أن تنتقل القبيلة من مفهوم الحماية التقليدية إلى مفهوم التمكين، بحيث تمتد حماية المرأة إلى حماية مستقبلها وحقها في صنع قرارها.

صوت القبيلة المساند للمرأة

رغم ما أظهرته قصص "حماس" و"سمية" وغيرهما من الفتيات من صعوباتٍ ومعوقات؛ فإن جزءًا من المجتمع البيضاني يشهد اليوم تحوّلاً ملحوظًا في رؤيته لدور المرأة.

فالمرأة البيضانية، تاريخيًا، تمتعت بالمكانة ذاتها التي تحظى بها المرأة اليمنية على امتداد الجغرافيا الوطنية، إلا أن الطبيعة القبلية المحافظة أسهمت عبر عقودٍ طويلة  في حصر دورها داخل حدود المنزل.

غير أن هذه الصورة بدأت تتغيّر تدريجيًا، حيث تبنى المجتمع البيضاني مفهومًا أكثر انفتاحًا يقوم على الشراكة المجتمعية.

بهذا الشأن، يشير الشيخ عبدالله صالح العبدلي، إلى أن حرمان المرأة من حقها في التعليم والعمل لا يمثّل الصورة الحقيقية للقيم القبلية.

وقال: "القبيلة وُجدتْ لتحمي أبناءها وبناتها، لا لتمنعهم من حقوقهم، فالتعليم والعمل حق مشروع للمرأة ما دام في إطار الضوابط الشرعية والعرفية، وما يمارس من قيود ضد الفتيات بشكل عام يعد تقييدًا للطموحات باسم العادات".

ويضيف: "اليوم، كثير من الأسر أصبحت تدعم تعليم بناتها، وبعضهنّ يكملنّ الجامعة ويصلنّ إلى وظائف محترمة، ونفخر بذلك، ولا نرى فيه أي مخالفة للدين أو لتقاليد القبيلة".

ويستدرك العبدلي: "التحفظ ما زال قائمًا في بعض القرى، لكن الوعي يتقدم شيئًا فشيئًا، خاصةً مع احتكاك المجتمع بمدنٍ أخرى أكثر انفتاحًا".

ويختتم: "لا يمكن منع الفتاة من حقها المشروع في حياة كريمة، فالعادات يجب أن تكون سُلَمًا نرتقي به، لا جدارًا نمنع به مستقبل بناتنا".

المرأة ركيزة أساسية

الأخصائي النفسي والاجتماعي، الدكتور مهيوب المخلافي، يعتقد أن "التحاق الفتيات بسوق العمل في اليمن ليس أمرًا مستحدثًا ولا طارئًا، بل هو جزء أصيل من تاريخ المجتمع اليمني".

ويكمل: "ففرص العمل أمام المرأة اليمنية كانت وما تزال متاحة، ولم يكن هناك زمن تُمنع فيه الفتيات من المشاركة العملية سواء في القطاع العام أو الخاص".

وأضاف المخلافي "عند العودة إلى التاريخ التجاري والتراث الاجتماعي لليمن، نجد أن المرأة اليمنية كانت في كثيرٍ من المراحل أكثر حضورًا وإنتاجًا، بل ومنافسة حقيقية للرجال في مجالات العمل المختلفة.

"فالفتيات مارسنّ التجارة والحرف والمهن المتنوعة عبر العصور، وهو ما يؤكد أن مشاركة المرأة في سوق العمل ليست خروجًا عن العادات، بل امتداد لدور تاريخي أصيل"، يقول المخلافي.

واختتم تصريحه باعتقاده أن "تشجيع المرأة اليمنية على العمل ليس مجرد توجهٍ حديث، بل هو سلوك مجتمعي راسخ، يعكس إدراكًا لأهمية دورها في التنمية، وقدرتها على الإسهام في الاقتصاد الوطني جنبًا إلى جنب مع الرجل".

تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع تعزيز دور وسائل الإعلام في دعم قضايا الصحة الإنجابية والعنف القائم على النوع الاجتماعي الذي ينفذه مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي