عبدالملك الأغبري
تولد الكثير من الفتيات في اليمن مسلوبات الحقوق، دون أن يدركنّ ما ينتظرهنّ من مستقبلٍ رُسم لهنّ مسبقًا بمعايير لا تُشبه أحلامهنّ؛ بسبب الأعراف والتقاليد المجتمعية، ليصبحنّ مع الوقت مجرد نسخٍ مكررةٍ من قصص الحرمان القسري.
نادية، (39 عامًا)، لم تكن تعرف أن الطريق إلى الزواج سيمر عبر بوابة التنازل عن حقها في الإرث، ليتحول بذلك إلى ثمنٍ لحياتها ومستقبلها.
تقول نادية: في البداية.. لم يكن تأخر زواجي أمرًا مقلقًا. كنتُ أرى أن النصيب يأتي في الوقت المناسب، وهو ما كان يردده لي إخواني دائمًا. لكن السنوات مضت، والعرسان يطرقون الباب ويُقابَلون بالرفض، دون أسبابٍ واضحة.
تضيف نادية: "كلما جاء أحد لخطبتي، يرفض إخوتي، أحيانًا حتى دون سؤالي عن رأيي، وأحيانًا دون علمي أصلًا. ولم أكن أجرؤ على النقاش أو السؤال حتى لا أُعنّف". وذات يوم أخبرتني صديقتي أنها تريدني لأخيها، فطلبتُ منها إخبار أخي الأكبر، لكنه رفض دون الرجوع إليَّ، مدعيًا أني لا أريد الزواج".
وتواصل: عاتبتني صديقتي بعد ذلك، فأخبرتها بعدم معرفتي بالأمر. وبعد إلحاحٍ من أخيها الذي أصبح زوجي لاحقًا، صارحني أخي بأن الزواج مشروط بالتنازل عن إرثي، وأنه من المستحيل أن يقبل بخروج الإرث لأشخاصٍ غرباء، فكتبتُ ورقةً بخط يدي مكرهةً وتنازلتُ عن الإرث الذي تركه لي والدي، حتى أنال فرصتي بالزواج وأتجنب الدخول في سن اليأس.
الإرث أو الطلاق
تزوجتْ نادية، لكنها لم تتوقع أن زواجها سينتهي بسبب الإرث الذي تنازلت عنه من أجل الزواج، حتى طلب زوجها أن تطالب بحقها بعد ثلاث سنوات من زواجهما، حين طردها من المنزل ووضعها أمام خيارين، كلاهما مُر.
تقول نادية: "أخبرته أنني تنازلتُ عن حقوقي وإرثي لأتزوج منه، وأدركُ تمامًا أن التنازل باطل، فقلتُ له سأكتب لك وكالة لتطالب بإرثي بعد وفاة والدي".
لكن ردّه كان كالصاعقة، كما تصفه، قال لي: "لن أضيّع نفسي وما أملكه من مال في المحاكم، إذا ما معكِ شيء من بيت أهلك، وإلا فلا ترجعي بيتي".
لحظتها، شعرتُ أن الأبواب كلها أُغلقت في وجهي، فخرجتُ من بيت الزوجية أحمل خيبتين، حرماني من الميراث، وخسارة زواجٍ لم يُمنح لي إلا مشروطًا.
هيمنة الأعراف والتقاليد
يقول أستاذ علم الاجتماع بجامعة تعز، الدكتور محمود البكاري: إن حرمان النساء من الميراث ما يزال شائعًا في بعض المناطق الخاضعة لهيمنة الأعراف والتقاليد، حيث تُعامل المرأة المطالبة بحقها في الإرث كمتمردةٍ اجتماعيًا، وتُواجه نظرةً دونية قاسية، تصل حد حرمانها من الزواج.
ويشير البكاري إلى أن بعض الأسر تبرر ذلك بالحرص على الفتاة من أطماع الزوج، واعتقادهم أن الزواج القائم على المصلحة يهدد مستقبلها. معتبرين أنفسهم أوصياء على قراراتها.
ويشدّد على أن ربط مصير الزواج بالميراث أمر غير منطقي، فالعلاقة الزوجية يجب أن تُبنى على القناعة والمودة، لا على الثروة أو الحقوق المسلوبة.
موقف الشرع والقانون
يؤكد المستشار القانوني محمد منصور الأغبري، أن اشتراط ولي الأنثى التنازل عن إرثها مقابل إتمام الزواج يشكّل تصرفًا باطلًا بطلانًا مطلقًا من الناحية الشرعية والقانونية؛ لكونه بذلك يقوم على الإكراه أو الابتزاز، وانعدام الرضا الذي يعد ركنًا جوهريًا في صحة أي تصرفٍ قانوني.
كما أنه يتعارض مع النظام العام والمبادئ التي أرستها الشريعة الإسلامية لصون الحقوق، ومنها الزواج والميراث، فإذا كان الأول قد ترك تنظيم بعض مواضيعه للأسرة والمجتمع؛ فإن الثاني قد تولى الله سبحانه تقديره وتحديد مستحقيه.
ويضيف الأغبري: "التعليق التعسّفي للزواج على التنازل عن حقوقٍ شرعيةٍ ثابتة، غير جائز شرعًا وقانونًا كون الإرث -بوصفه حكمًا قطعيّ الدلالة والثبوت- لا يملك أحد منحه أو مصادرته".
يواصل: "ولا يجوز أن يتحوّل إلى أداة ضغطٍ تُنتزع المرأة بها من دائرة الاختيار الحر إلى دائرة الامتثال القسري، وأي ربطٍ لإتمام عقد الزواج بالتنازل عن حقٍ مالي ثابت هو تشويه لطبيعة العلاقة الزوجية".
"فالزواج سكن وليس سوقًا للمقايضة على الحقوق. وأي مساومةٍ من هذا النوع لا تختلف في جوهرها القانوني عن صور الابتزاز والإكراه".. يقول الأغبري.
ويزيد: كما أنها تُعد مبررًا كافٍ لإبطال عقد التنازل -إن وُجد- والقانون لا يعمل بوصفه مجرد نصوص جامدة، بل كمنظومة قيمٍ.
الأغبري يرى أن الولاية في أصلها رعاية، فإن انقلبت إلى تسلّط، نُزعت ممن أساء استعمالها، والإرث في جوهره حقٌّ مُقرَّر، فإن أصبح ثمنًا للزواج، خرج من دائرة الشرعية إلى دائرة البطلان.
تؤكد القاضي إشراق المقطري، خبير آليات حماية حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية، أن ظاهرة التنازل القسري عن الأرض من قبل النساء ليست مجرد حوادث فردية، بل سلوك متكرر في عدة محافظات يمنية، لا سيما في المناطق الريفية والساحلية والصحراوية.
وتشير إلى أن كثيرًا من الأسر تتذرع بأن هذا التنازل يتم بـ"رضا المرأة"، تحت مبرر الحفاظ على أملاك العائلة ومنع انتقال الأرض خارج إطار الأسرة، في ظل أعرافٍ قبلية راسخة.
غير أن الواقع، بحسب المقطري، يُظهر أن هذه التنازلات تتم تحت الإكراه، وهو ما يُعد مخالفةً صريحة للدستور اليمني الذي يضمن حق التملك للنساء والرجال على حد سواء، كما أنه يتعارض مع قانون الأحوال الشخصية.
وتضيف أن الإشكالية الأكبر تكمن في أن العادات والتقاليد تحولت إلى سلطةٍ أقوى من النصوص القانونية والدينية؛ ما يتطلب تدخلًا توعويًا حقيقيًا للوصول إلى المجتمعات النائية ومواجهة هذا السلوك.
المقطري تحذر من أن النساء، في الغالب، لا يستطعنَ التعبير عن تعرضهنّ للإكراه أو اللجوء إلى القضاء؛ ما يزيد من هشاشة موقعهنّ الاقتصادي والاجتماعي.
وترى أن الحرب جاءت لتعزز سياقًا من التمييز القائم منذ عقود طويلة، حيث تظل المرأة، في كثير من المجتمعات، محرومة فعليًا من الحق في الأرض، سواءً كانت أختًا أو زوجةً أو حتى وريثةً شرعية، وهو ما يعمّق فجوة التمكين الاقتصادي ويكرّس الشعور بالدونية لدى كثير من النساء.
وخلُصت القاضية إشراق المقطري، إلى أن ما تتعرض له النساء من إجبارٍ على التنازل عن حقوقهنّ في الميراث، يعكس فجوةً عميقةً في التمكين الاقتصادي بين الجنسين.
واعتبرت أن هذا الواقع لا يُفاقم فقط من هشاشة وضع المرأة الاقتصادي، بل يكرّس شعورًا دائمًا بالغبن والدونية، ويؤسس لمكانةٍ اجتماعية هشةٍ للنساء مقارنةً بالرجال، في ظل منظومةٍ ثقافية تفضّل الذكور وتحرم النساء من أبسط حقوقهنّ، كحق التملك والمشاركة العادلة في موارد الأسرة.
تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع تعزيز دور وسائل الإعلام في دعم قضايا الصحة الإنجابية والعنف القائم على النوع الاجتماعي الذي ينفذه مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي
.png)
