عبدالعالم الشرجي
في مجتمعٍ ريفي تحكمه الأعراف والتقاليد، تشق فتيات من محافظة أبين طريقًا غير مألوفٍ نحو مهنٍ تقنيةٍ ظلت حكرًا على الرجال.
التحقت الفتيات ببرنامجٍ تدريبي لصيانة الهواتف الجوّالة؛ كرسالةٍ مباشرةٍ لكسر الصورة النمطية، وتعزيز فرص التمكين الاقتصادي والاجتماعي.
برنامج "التلمذة المهنية" نفذّه الصندوق الاجتماعي للتنمية، بالشراكة مع منظمة العمل الدولية، هدف إلى إكساب الفتيات مهاراتٍ عمليةً في مهنة صيانة الجوّالات.
كما يسعى لخلق فرص دخلٍ آمنة ومستدامة للنساء، ضمن بيئةٍ ريفيةٍ ما زالت تتعامل مع حضور المرأة في المجالات التقنية بكثيرٍ من الريبة والرفض.
تحدي النمطية
"سبأ" (27 عامًا)، من أبين، بكالوريوس رياضيات، واجهت بعد تخرجها واقعًا بلا وظائف؛ لتجد نفسها مضطرةً للبحث عن مصدر دخلٍ يعين أسرتها.
التحاق "سبأ" بدورة صيانة الجوّالات لم يكن سهلًا، وسط تعليقاتٍ اجتماعية رافضة من نوع: "بنت تصلّح جوالات؟!"، لكنها آثرت كسر النمط وتحدي نظرة المجتمع.
تقول: "واجهتُ نظرات استغراب وتعليقات تقلل من دخولي هذا المجال، لكنني آمنتُ بأن عليّ خلق فرصة لنفسي".
تحولت "سبأ" بمرور الوقت إلى خيارٍ آمنٍ لنساءٍ يخشينَ تسليم هواتفهنّ لمحال الصيانة؛ بسبب خصوصية محتواها.
واليوم تتحدث بثقة: "صنعتُ طريقي، وأصبحت أعيل أسرتي، وغيّرتُ نظرة المجتمع لي".
افتتحت مشروعًا صغيرًا لصيانة الجوّالات داخل منزلها، وتطور المشروع ليصبح مصدر دخلٍ ثابت لدعم أسرتها.
والأهم، أن المشروع وفّر للنساء ملاذًا آمنًا لإصلاح جوّالاتهنّ بعيدًا عن المخاوف المتعلقة بالخصوصية والابتزاز.
تضيف "سبأ" بفخر: "اليوم يقصدني كثير من النساء، وبعد أن كانت النظرة رفضًا أصبحت احترامًا لما أقوم به".
الشعور بالأمان
"سامية مصطفى" (25 عامًا) التحقت بالتدريب بعد رفض عائلتها دخول المجال لاعتقادهم أن المدربين رجال، لكن إصرارها ودعم والدتها غيّر موقف الأسرة.
بعد التدريب ومنحها حقيبة كاملة بمعدات الصيانة، أسست "سامية" ورشتها الخاصة في منزلها، كأول فتاةٍ في منطقتها تقوم بإصلاح الجوّالات.
ذلك شجّع نساء كثيرات على التعامل معها، تقول: "وجود مهندسة صيانة منح النساء شعورًا بالأمان، وساعدتُ أسرتي اقتصاديًا وغيرتُ نظرة المجتمع".
كسر احتكار الرجال
"نور أحمد" (25 عامًا)، خريجة تربية حاسوب، تدربت بدافع خدمة نساء منطقتها اللاتي لا يقمنّ بإصلاح الجوّالات؛ ويضطرنّ لكسر هواتفهنً بدلًا من إصلاحها خشية انتهاك خصوصياتهنّ.
افتتحت "نور" ورشةً لصيانة الجوّالات بمنزلها، وحصلت على دعمٍ تقني ومالي مكّنها من شراء أدوات صيانةٍ وكمبيوتر، وباتت وجهةً آمنة لإصلاح جوّالات النساء.
وتضيف "نور": "كان هناك شغف لخدمة النساء، وتوفير الثقة لهنّ عند إصلاح جوّالاتهنّ، واليوم أسهم في مصاريف أسرتي".
النساء يستعدنَ خصوصيتهنّ
تقول "أم فاطمة" وهي امرأة كانت تمتنع عن إصلاح جوّالها لسنوات: "كنتُ أخشى إظهار محتويات جوالي أمام مهندسٍ من الرجال".
وتواصل: "عند معرفتي بوجود مهندسة توجهتُ مباشرةً لإصلاح جوالي وأنا مطمئنة".
من جانبها، تشير "سلوى" إلى تعرض نساءٍ كثيرات للابتزاز؛ بسبب الصور العائلية على جوّالاتهنّ، لكن اليوم نجد بديلًا آمنًا".
ويذكر رائد محمد علوي أن شاشة جوّال زوجته انكسرت منذ أشهر، وتجنب إصلاحه خوفًا على خصوصيتها. لكن بمجرد سماعه بوجود مهندسةٍ في القرية سارع إلى إصلاحه دون تردد".
ويعبر والد "سبأ" عن فخره بابنته قائلًا: "ابنتي خاضت طريقًا لم يكن سهلًا للفتيات. لكنها أصرّتْ وتعلمتْ وواجهتْ المجتمع بثقة. حتى استطاعت أن تجعل مهنتها مصدر دخلٍ للأسرة. واليوم أراها تكسر القيود وتثبت أن الفتاة إذا أرادت فإنها تستطيع".
التمكين التقني يحد من الابتزاز
الباحث في الأمن الرقمي، والناشط بالتوعية حول قضايا الابتزاز الإلكتروني، فهمي الباحث، يرى أن وجود مهندسات صيانة يمثل "تحولًا مهنيًا وأمنيًا" يتيح للنساء بيئةً أكثر خصوصيةً، ويقلل من المخاطر التي يتعرضنَ لها.
ويشير الباحث إلى أن النساء يشعرنّ براحةٍ أكبر عندما تتعامل معهنّ مهندسة تفهم حساسية الصور والبيانات. إضافةً إلى الحد من احتمالات نسخها واستغلالها.
ويضيف: "وجود مهندسات أصبح إجراءً وقائيًا يحد من تسريب الصور والابتزاز. ويرفع مستوى الالتزام الأخلاقي ويحول المنافسة من التقنية إلى المنافسة على الثقة".
ربط التدريب بسوق العمل
يوضح مسؤول برنامج "التلمذة المهنية" في الصندوق الاجتماعي للتنمية، رمزي الشيخ، أن اختيار تخصص صيانة الهواتف جاء استجابةً لاحتياجاتٍ فعلية في سوق العمل.
لافتًا إلى أن البرنامج أعقبه مراحل دعم وتمويل للمشاركات، شملت حقيبةً مهنيةً متكاملةً ومنحًا تأسيسيةً لبدء المشاريع مباشرة.
ويشير الشيخ إلى أن المشروع عمل أيضًا على ربط المتدربات بسوق العمل عبر قنواتٍ متعددة، بينها التدريب المتقدم في ريادة الأعمال وتشجيع الحرفيين والقطاع الخاص على استيعاب المخرجات.
إلى جانب ربطهنّ ببرامج ضمان القروض والتمويل الأصغر؛ بما يسهم في تعزيز الاستدامة الاقتصادية، وتحويل التدريب إلى نشاطٍ منتجٍ داخل المجتمع.
تحديات مجتمعية
تمثل هذه التجربة نموذجًا عمليًا للمقاومة الإيجابية للعنف القائم على النوع الاجتماعي، خصوصًا التمييز الاقتصادي والمجتمعي ضد المرأة في البيئة الريفية.
وفي هذا السياق، يوضح أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة عدن، الدكتور عادل الحاج، أن دخول الفتيات مجالاتٍ تقنيةً، مثل صيانة الهواتف يواجه تحدياتٍ نفسيةً واجتماعيةً متعددةً.
وأبرز تلك التحديات، بحسب الحاج، الصورة النمطية السائدة لأدوار المرأة والضغوط الأسرية، إضافةً إلى التخوف من بيئة العمل المختلطة وغياب نماذج نسائية سابقة يمكن الاقتداء بها.
ويرى الحاج أن هذه التحديات قد تضعف ثقة بعض الفتيات بأنفسهنّ، لكنها تمنح من يتجاوزونها فرصةً حقيقيةً للتمكين، وكسر الحواجز المجتمعية التقليدية.
ويختتم الحاج بالدعوة لتعزيز التوعية المجتمعية وتوفير دعمٍ نفسي ومهني للفتيات؛ وإبراز نماذج ناجحة؛ لتسهيل دخول المرأة المهن التقنية، وفتح فرصٍ اقتصادية جديدة لها داخل الريف.
ريادة الأعمال
يعتقد المدرب واستشاري ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة، الدكتور صلاح الهتار، أن دخول الفتيات الريفيات مجال صيانة الهواتف يمثل "تحولًا رياديًا مبتكرًا".
"وذلك يعتمد على تقديم خدمةٍ ذات خصوصية عالية لنساءٍ يفضلنّ التعامل مع مهندساتٍ يضمن لهنّ حماية بياناتهنّ"، بحسب الهتار.
ويرى الهتار أن هذا النشاط لا يلبي حاجةً تقنيةً فقط، بل يعالج فجوةً اجتماعية، ويوفر فرصةً اقتصاديةً مستقرةً قابلة للتوسع؛ ويجعله نموذجًا عمليًا لريادة المرأة في بيئةٍ ريفيةٍ.
من التدريب إلى الاستثمار
تشير الناشطة المجتمعية، ميمونة الشرجي، إلى أن ما يجري ليس مجرد قصصٍ فردية، بل تحولٌ اجتماعي حقيقي.
مضيفةً: "الفتيات في البيئات الريفية أثبتنّ قدرتهنّ على كسر الصورة النمطية من خلال دخول مجالات تقنية ظلت حكرًا على الرجال".
الشرجي اعتبرت أن التعليم والتدريب ساهما في تحسين أوضاع الفتيات الاقتصادية والاجتماعية، وجعلتهنّ شريكاتٍ في إعالة أسرهنّ ونماذج يحتذى بها داخل المجتمع.
لم تعد قصص سبأ، سامية، ونور مجرد نجاحاتٍ فردية، بل خطواتٍ متراكمةً باتجاه العدالة المهنية وحق المرأة الريفية في العمل والمشاركة والتمكين، وبناء نموذجٍ يواجه التمييز القائم على النوع الاجتماعي.
تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع تعزيز دور وسائل الإعلام في دعم قضايا الصحة الإنجابية والعنف القائم على النوع الاجتماعي الذي ينفذه مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي
.png)
