كتبت/ د. نسرين علي صالح البغدادي
عضو هيئة تدريسية؛ ورئيس قسم التدريب والتأهيل
لطالما ارتبطت حضارات جنوب شبه الجزيرة العربية القديمة (منطقة اليمن) بدورها الاقتصادي المميز، لا سيما في تجارة البخور والمر، وبنيتها الاجتماعية المعقدة التي ظهرت جليا في النقوش المسندية والزبورية القديمة. لكن ما يقلّ انتباه الكثيرين هو الدور الذي لعبته النساء في ذلك الاقتصاد، من خلال تقديم التقدمات الدينية، والإسهام في المؤسسات الدينية، والممارسات الاقتصادية المرتبطة بالتجارة والمعابد والدور الوظيفي لها. إن فهم هذا الدور القديم لا يضيف فقط إلى دراستنا التاريخية، بل يمكن أن يحمل دلالات مهمة لتمكين النساء اليوم في اليمن وسواها.
المرأة واقتصاد جنوب الجزيرة العربية
1- النقوش: لنساء… حضور اقتصادي وديني
تُشير الدراسات التاريخية إلى أن النساء في جنوب الجزيرة العربية قدمن ما يُعرف بالتقدمات الدينية في النقوش اليمنية القديمة، مما يدل مساهمتهنَّ في الحياة الدينية والاقتصادية للمجتمع.
هذه التقدمات والحضور الديني للمرأة في اليمن القديم، ليست فقط رمزية، بل غالبًا ما تقتضي تقديم تذكر المرأة اسمها وأسماء أولادها، وتضعهم تحت حماية المعبود الذي توَّجه نحوه بتقدمتها، وهو ما يعكس فهماً عميقًا للتراتبية الروحية والاقتصادية في المجتمع القديم. هذا المستوى من التفاعل الديني والاقتصادي يعني أن المرأة لم تكن مجرد متفرجة، بل فاعلة مادية: التمثال أو التقدمة التي قدمتها كانت مكلفة (من حيث المواد والعمل)، وبالتالي فإن للنساء الموارد أو النفوذ الذي يسمح لهنّ بالمشاركة في الاقتصاد الديني.
كما أسهمت المرأة اليمنية قديمًا بدور بارز في توليها بعض الأدوار الاقتصادية المتعلقة بالجانب الديني، كان شغلت مناصب عُليَّا دينية في المؤسسات الدينية ذات بُعد اقتصادي..
2- اقتصاد الجنوب… زمن القوافل:
اقتصاد جنوب الجزيرة العربية القديم كان محوره تجارة التوابل، مثل اللبان والمر، التي تُزرع في بعض المناطق اليمنية. فقد كانت تجارة اللبان والمر من ركائز الاقتصاد الاجتماعي لجنوب شبه الجزيرة.
على سبيل المثال، تشير نقوش قوافل قديمة بأن اللبان كان يُشار إليه في النقوش باسم “ل ب ن ي” (لبني)، وأنه كان يُستخرج من مناطق مثل حضرموت وسقطرى، وكانت له الموانئ الخاصة بتصديره. هذا الطابع التجاري مكّن المجتمعات الجنوبية من التفاعل مع شبكات تجارية واسعة تمتد إلى المشرق والبحر الأبيض المتوسط.
في سياق هذا الاقتصاد، من الممكن أن تلعب المرأة أدوارًا متعددة: كمساهمات في معابد مرتبطة بالاقتصاد الديني، أو كأفراد من أسر تمتلك ثروة من تجارة التوابل أو الزراعة المرتبطة بها، أو كمشاركات في الشبكات الاجتماعية التي تدعم هذه التجارة من خلال العلاقات القبلية والدينية.
3 - السلطة الاجتماعية والسياسية للنساء:
لا يمكن فصل هذا الدور الاقتصادي والديني للنساء عن الأرض الأوسع للسلطة السياسية في الممالك الجنوبية القديمة. وتشير الدراسات البحثية إلى أن ممالك جنوب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام تميزت ببنية سياسية قوية، حيث كانت الملكة أو النساء من النخبة يمتلكن دورًا مهمًا في السلطة.
وفقًا لهذا البحث، لم تكن السلطة مقتصِرة على الرجال فقط، بل شملت أحيانًا نساء بارزات – والمساهمة الاقتصادية من النساء، سواء عبر التقدمات أو الممتلكات، يمكن أن تكون جزءًا من هذا السياق السياسي المتداخل مع الدين والاقتصاد.
بالتالي، فإن النساء في هذه الممالك لم يكن دورهنّ مقتصرًا على الأسرة والمعبد فحسب، بل كنّ فاعلات في بُنية سياسية-اقتصادية متشابكة، مما يمنحهنّ درجة من التأثير والسلطة التي قد لا تكون ظاهرة دائمًا في السرد التقليدي.
ما يعنيه ذلك لنساء اليوم:
-1 إعادة تأمل التاريخ كأداة تمكين:
معرفة هذه الأمثلة التاريخية – أن النساء في جنوب الجزيرة العربية القديمة كنّ يقدمن تضحيات اقتصادية، ويبنّين التماثيل، ويمتلكن علاقات سياسية – يمكن أن تكون مصدر إلهام لتمكين نساء اليوم. فبإعادة قراءة هذا الماضي، يمكن للنساء المعاصرات أن يستمدنَّ قوة من جذورهنّ الحضارية، مما يعزز الثقة بأنهن جزء من تراث اقتصادي وثقافي غني وليسوا مجرد متلقّيات للمشاركة المجتمعية.
-2تعزيز القيم الاقتصادية المجتمعية
الدور النسوي القديم في المعابد والتجارة يبيّن أن النظام الاقتصادي الاجتماعي لم يكن فقط ذكوريًا؛ بل كانت هناك مساحات للمرأة تسهم فيها بفعالية. اليوم، يمكن هذا النموذج أن يشكل قاعدة للنقاش حول المساواة في المشاركة الاقتصادية، ودعم المشاريع النسوية في اليمن والمجتمعات العربية الأخرى، لا من منطلق حقوق فحسب، بل من منطلق تراث حضاري يعترف بمساهمة المرأة منذ الأزمان القديمة.
-3دعم البحث الأكاديمي والمحلي:
الكشف عن هذه النقوش وتفسيرها (كما في دراسات البحثية العلمية) يوضح أهمية الدعم الأكاديمي للمجالات التي تجمع بين التاريخ، الآثار، والدراسات الجندرية. من خلال تشجيع المزيد من الأبحاث التي تركز على مساهمة النساء في الماضي، يمكن بناء سرد تاريخي أكثر شمولًا، وهو ما قد يدعم مناهج تعليمية محلية (في الجامعات اليمنية مثلاً) يعزز فهم دور المرأة في التاريخ الوطني.
4- رؤية للمستقبل الاقتصادي:
إذا كانت المرأة القديمة قادرة على أن تساهم في اقتصادها من خلال التقدم الديني والتجارة، فإن ذلك يمكن ترجمته إلى اليوم عبر مبادرات اقتصادية مستدامة للنساء، مثل المشاريع التي تستثمر بالتراث (السياحة الأثرية، الحرف اليدوية المرتبطة بالتراث القديم)، أو من خلال مؤسسات تدعم ريادة الأعمال النسوية بمعايير تستند إلى السياق الثقافي والتاريخي.
إن دراسة دور المرأة في اقتصاد جنوب شبه الجزيرة العربية القديم – من خلال النقوش التي توثق التقدمات والتفاعلات الدينية، ومن خلال اقتصاد التوابل العابر للحدود، ومن خلال السلطة الاجتماعية والسياسية – هي أكثر من مجرد بحث أكاديمي في الماضي. إنها دعوة للتفكير: كيف يمكن لأنماط من الماضي أن تلهم واجهات تمكين جديدة اليوم؟ كيف يمكن لنساء اليوم أن يستفدن من تراثهنّ ليبنّين مستقبلًا اقتصاديًا واجتماعيًا أكثر قدرة واستقلالًا؟
من هذا المنطلق، فإن إعادة قراءة التاريخ ليست فقط عمليّة توثيق للماضي، بل أداة تغيير تمكيني للمرأة المعاصِرة، خاصة في السياقات التي تفتقر فيها إلى نماذج اقتصادية قوية من التراث.
.png)
