كتبت/ سعيدة عبد الغني

في عالم يتزايد فيه الوعي بالصحة والتغذية، يبرز مرض "السيلياك" (الداء البطني) كاضطراب مناعي ذاتي لا يقتصر تأثيره على الجهاز الهضمي فحسب، بل يمتد ليشمل مختلف جوانب صحة الإنسان الجسدية والعصبية والنفسية. فبينما يربط الكثيرون بينه وبين مشاكل الأمعاء والانتفاخ، يغفلون عن تأثيره الخفي على الدماغ والحالة المزاجية، مما يجعله تحديًا شاملاً يتطلب فهمًا عميقًا ورعاية متكاملة.

معاناة خفية

تتجلى المعاناة الحقيقية لمرضى السيلياك في قصصهم الشخصية التي تكشف عن سنوات من التخبط التشخيصي والألم النفسي العميق.

تقول حنان أحمد -32 عامًا- لمنصة هودج: "لقد مررت بست سنوات صعبة جدًا. كلما شعرت بالتعب أو الألم، كان الأطباء يشخصون حالتي على أنها "جرثومة معدة"، ويعطونني مضادات حيوية قوية جدًا. ورغم ذلك، لم تتوقف الأعراض والآلام."

ولم تقتصر معاناتها على الجسد، بل امتدت لتطال صحتها النفسية: "أصبت بنوبات خوف وهلع، واكتئاب شديد، وكانت حالتي النفسية تتدهور باستمرار. لم يكن أحد يفهم أن هذا التعب النفسي هو جزء من المرض الجسدي".

عندما اكتشفت المرض، لم تكن الصدمة على التشخيص الطبي كاضطراب مناعي ذاتي، بل من ردود فعل المجتمع. واجهتُ تعليقات مثل: كيف ستعيشين بدون خبز؟ خلاص احفري لك قبر. هذه ليست حياة. بل وصل الأمر بالبعض للقول: لا يوجد مرض يمنعك من أكل الخبز. هذه التعليقات تكشف عن نقص الوعي الكبير بالمرض وتأثيره الحقيقي، حيث تحوِّل متطلبات الحياة اليومية للمصاب إلى عُزلة اجتماعية وإحساس بالقهر، تقول حنان.

وتروي آلاء حسن قصة مشابهة بدأت عام 2016، حيث شعرت في البداية بحرقان خفيف ومتقطع سرعان ما تفاقم ليصحبه غثيان مستمر، وتم تشخيص حالتها بشكل خاطئ بـ "حمى التيفوئيد".

تفاقم وضعها الصحي بشكل حاد بعد الولادة، إذ أصبح الغثيان والخمول والضعف ملازمًا لها، مصحوباً بتساقط "هستيري" للشعر.

وصلت المعاناة إلى ذروتها على الصعيد النفسي والاجتماعي، حيث بات دخول الحمام يسبب لها ضيقاً شديداً وبكاءً لا يمكنها التحكم به، ودفعتها حالتها إلى العزلة وعدم تحمل التجمعات أو الزيارات، وعلى الرغم من أن فحصاً شاملاً باستخدام جهاز متطور أظهر سلامة كل شيء، إلا أن المنظار كشف في نهاية المطاف الحقيقة، أمعاؤها متضررة.

السيلياك علاقة معقدة تتخطى الأمعاء إلى الدماغ

يحدث مرض السيلياك عندما يهاجم الجهاز المناعي بطانة الأمعاء الدقيقة استجابة لتناول الجلوتين، وهو بروتين موجود في القمح والشعير والجاودار، مما يعيق قدرة الأمعاء على امتصاص العناصر الغذائية الأساسية.

وتؤكد الأخصائية النفسية منيرة النمر، وجود علاقة وطيدة بين مرض السيلياك والصحة النفسية، موضحة أن الأعراض الشائعة هي القلق، والاكتئاب، وتقلب المزاج، والتعب النفسي، واضطراب النوم.

وتشير إلى أن بعض الدراسات أثبتت أنها تسبب اضطرابات مثل ADHD - فرط الحركة وقلة الانتباه- لدى المرضى، حيث تظهر الأعراض النفسية فيها قبل الأعراض الكلاسيكية الهضمية الإسهال والانتفاخ.

وتشرح النمر آلية هذه العلاقة: " التعرض للجلوتين عند مرض السيلياك يمكن أن يزيد من شدة الاعراض النفسية، وذلك بسبب الالتهاب المناعي المزمن وتأثير سوء امتصاص بعض العناصر مثل الحديد وفيتامين بي12 والفولات على الدماغ وهو ما يعرف بـ محور الأمعاء - الدماغ"

الانفوجرافيك التالي يقدم لكم خريطة عالمية شاملة لأبرز إحصاءات وتفاصيل المرض

التأثير على الجهاز العصبي والخصوبة

إلى جانب التأثيرات النفسية، قد يرتبط السيلياك بزيادة خطر الإصابة باعتلالات عصبية، ومن أبرزها الاعتلال العصبي المحيطي والصداع النصفي واضطرابات الذاكرة.

وتفسر النمر هذه العلاقة بأن الالتهاب المناعي المزمن يؤثر بشكل مباشر على الجهاز العصبي المركزي، إضافة إلى أن سوء امتصاص الفيتامينات الأساسية كفيتامين بي 12 وفيتامين دال يضر بالوظائف الإدراكية.

وأكدت النمر على أن الالتهابات المزمنة في الأمعاء تطلق وسطاء التهابية تصل إلى الدماغ، مما يساهم في تأثر المزاج والوظائف العصبية للمصابين بالسيلياك."

كما يمتد تأثير سوء الامتصاص الناتج عن السيلياك ليشمل الخصوبة والإنجاب، حيث يوضح استشاري الأمراض الباطنية، الدكتور عبدالحفيظ الصلوي أن المرض يسبب عجز الامتصاص فبالتالي سوء التغذية وتأخر نمو البنات قبل سن البلوغ وتأخير سن البلوغ، وقد يسبب قزامة وكساح أحيانًا إذا لم يتم تشخيص المرض، فالإنجاب يتأخر ونتيجة لسوء التغذية وفقر الدم الشديد المصاحب للمرض ممكن يسبب تأخر الإنجاب".

وأضاف الصلوي، أن الحمل قد يصاحبه مضاعفات مثل: أن الجنين صغير النمو، أو تأخر في نمو الجنين، وقد يحدث أحيانًا إجهاضات بسبب سوء التغذية، وأحيانًا شدة فقر الدم ممكن يسبب قصور القلب لدى المرأة وعدم قدرتها على مواصلة الحمل.

تحديات التشخيص في اليمن ودور الوعي

يشير الصلوي إلى أن تشخيص السيلياك صعب عمومًا لتشابه أعراضه مع القولون العصبي والتهابات الأمعاء. لكن الصعوبة تزيد لدى النساء لقرب تشابه مضاعفات السيلياك مع ما تعانيه المرأة اليمنية من نقص فيتامين دال بسبب عدم التعرض للشمس، وكذلك فقر الدم نتيجة كثرة الحمل والولادة وسوء التغذية، مما يجعل الأطباء ينخدعون ويؤدي إلى تأخير التشخيص.

وتعقيبًا على أسباب الانتشار المتزايد لمرض السيلياك، على عكس ما كان عليه الوضع سابقًا، توضح أخصائية التغذية العلاجية عبير القباطي، في التسجيل التالي:

ويؤكد الصلوي على ضرورة رفع الوعي الطبي والمجتمعي، من خلال التركيز على المرض في المنهج والمؤتمرات والدورات التدريبية للأطباء، ليصبحوا على وعي بأنه منتشر وليس نادرًا. وكذا توعية المجتمع من خلال النشرات الطبية في المدارس واللقاءات المجتمعية والمساجد، وإنشاء جمعية لمرضى السيلياك تتولى نشر المعرفة.

العلاج الشامل والمسؤولية المشتركة

الحمية الخالية من الجلوتين تبقى العلاج الوحيد والفعال، حيث تتحسن الأعراض بشكل كبير وتدريجي عند الالتزام بها، وتوصي الأخصائية منيرة النمر المرضى بـ: إعادة سياقة التفكير والنظر الى الحمية أنها وسيلة صحية وليست حرمان، وتشدد على أن الدعم النفسي له أثر كبير على الالتزام وتحسين الحالة وتخفيف الأعراض الجسدية.

وتقدم أخصائية التغذية عبير القباطي توصيات للتعايش: "الالتزام بنظام غذائي خالٍ من الجلوتين هو خط الدفاع الأول والأخير. يجب قراءة الملصقات الغذائية بعناية فائقة لتجنب أي تلوث بالجلوتين، حتى بكميات ضئيلة." وتنصح بتعويض نقص المغذيات، والتركيز على الأطعمة الكاملة، وتجنب الجلوتين الخفي في الأدوية ومستحضرات التجميل.

دور الدولة في توفير الغذاء

يختتم الصلوي حديثه بالدعوة إلى ضرورة توفير المنتجات الخالية من الجلوتين، ويرى أن الدولة يجب أن تتولى ذلك، وأن تتبنى سياسة توفيرها كما يتم توفير علاجات للأمراض المزمنة.

كما يقترح أن يكون هناك تنسيق مشترك بين الجهات الطبية والحكومية المعنية، بحيث متى ما تم تشخيص المرض من قبل الجهات الطبية تقوم الجهات الحكومية بإدراج اسمه ضمن المستحقين لتناول الغذاء الخالي من الجلوتين ويقدم للمرضى إما مجانا أو بمشاركة مجتمعية ضئيلة.

إن مرض السيلياك ليس مجرد حساسية غذائية، بل هو اضطراب مناعي معقد يؤثر على حياة المصاب من كل جوانبها. والتحدي الحقيقي يكمن في التشخيص، لكن التوعية بأعراضه المتعددة، يمكنها المساهمة في تشخيصه المبكر.

وتوفير الرعاية الشاملة للمرضى يمكنهم من عيش حياة طبيعية وصحية، اكتشاف المرض المتأخر ليس نهاية المطاف، بل هو بداية لرحلة جديدة من التعافي الجسدي والنفسي.