كتبت/ سهير عبد الجبار
في صباح حار من صيف عدن، جلست انتصار الكبسي في قاعة مقابلة عمل وهي تحمل هاجسًا مزدوجًا: القلق من أسئلة اللجنة، ومصير أطفالها الذين رافقوها من صنعاء بعد انفصالها عن زوجها. كانت تأمل في وظيفة تؤمّن لها لقمة عيش كريمة، لكن الحلم تحوّل إلى نزاع أسري وقانوني كاد ينتزع منها حضانة أبنائها.
فما إن علم والد الأطفال بسفرهم حتى اتهمها بـ "خطفهم"، وروّج بين الأقارب والجيران أنها هربت بهم. ورغم تأكيدها أن الرحلة لا تتجاوز أسبوعًا لإجراء المقابلة، منعها لاحقًا من اصطحابهم بعد قبولها في الوظيفة. وأوضحت محاميتها أن القانون يمنح الأب الأفضلية، إذ لا يحق للأم الحاضنة السفر بأطفالها بين المحافظات إلا بموافقته أو بقرار قضائي، وإلا سقطت حضانتها.
قوانين لا تنصف المرأة
تجربة انتصار تكشف معاناة كثير من الأمهات في اليمن مع نزاع حضانة الأطفال بعد الطلاق. فرغم أن القانون يمنح الأم أولوية الحضانة، إلا أنه يقيّدها بشروط صارمة مثل عدم الزواج أو السفر، بينما يُعفى الأب من هذه القيود؛ فيستطيع الزواج أو الانتقال دون أن يفقد ولايته. هذا التفاوت يضع الأمهات أمام خيار قاسٍ: إما التضحية بعمل وحياة جديدة، أو خسارة أطفالهن.
قانون الأحوال الشخصية لعام 1992 رتّب الحضانة بدءًا بالأم ثم الجدة فالخالة فالأب، مع سلطة القاضي في تجاوز الترتيب لمصلحة الطفل. وتنص المادة (141) على حق الأم في الحضانة ما دامت صالحة، لكن المادة (143) تسقط حقها بالزواج أو الانتقال إلى مكان يعيق تواصل الأب مع الطفل. كما تحد المادة (145) من قدرتها على نقل المحضون إذا رأت المحكمة أن ذلك يضر بمصلحة الطفل.
وعمليًا، تُفسَّر هذه المواد غالبًا بما يقيّد حركة الأمهات، ما يؤدي إلى نزاعات قضائية تفقد فيها بعضهن الحضانة لمجرد انتقالهن إلى محافظة أخرى أو خارج البلاد، لتتداخل النصوص القانونية مع الأعراف الاجتماعية وتتحول الحضانة إلى معركة قاسية تنعكس مباشرة على استقرار الطفل.
يوضح المحامي الحقوقي جمال سريع أن من أبرز الأسباب التي تدفع أولياء الأمور، خصوصًا الآباء، للاعتراض على سفر أطفالهم مع أمهاتهم بعد الطلاق هو الخوف من ضياع الهوية. ويقصد بذلك أن الطفل، عند انتقاله للعيش في مكان بعيد، قد يتأثر بعادات وتقاليد وطباع تختلف عن بيئته الأصلية، مما قد يغيّر من انتمائه الثقافي والاجتماعي.
ويضيف أن بعض الأمهات قد تتحايل على القانون في بعض الحالات، كأن تغيّر اسم الطفل أو تنسبه إلى زوجها الجديد ثم تسافر به بعيدًا عن والده وأسرته، وهو ما يصعّب على الأب التواصل معه أو الحفاظ على رابط النسب والهوية العائلية.
رأي الوالد
من جهتها، توضح الأخصائية النفسية فردوس الرباصي أن جزءًا كبيرًا من سلوك الإنسان مكتسب، ويتأثر بأسلوب التنشئة الوالدية والبيئة الاجتماعية المحيطة. فالاندماج في أسر بديلة، وفقًا لنظرية التعلم بالنمذجة، يترك أثرًا واضحًا على الفرد، إذ يسعى الإنسان بطبيعته إلى التكيف مع البيئة التي يعيش فيها، مما يغيّر من سلوكه وأفكاره تبعًا للأشخاص الذين يختلط بهم. وتشير الرباصي إلى أن الطفل يكون أكثر تأثرًا بوالدته.
وتضيف أن هذا التأثير قد يكون إيجابيًا أو سلبيًا، ويعتمد على عدة عوامل، منها شخصية الأم، والظروف المحيطة، والإمكانيات المتاحة، والبيئة الجديدة، إضافة إلى البنية النفسية للطفل.
في حالة انتصار الكبسي لا يُعد المكان بعيدًا، لكن القانون يرفض ذلك تمامًا، ويتوقف مصير الأطفال على رأي وليهم، حيث يستطيع منعهم من التنقل مع والدتهم بموجب القانون. بل إن بعض النقاط تشترط موافقة ولي الأمر وإبراز شهادة الميلاد.
يقول المحامي عبد الكريم شمس الدين: "لا يحق للأم الحاضنة أن تسافر بالمحضون أو تنقله بين المحافظات دون موافقة الولي (والده)، إلا بإذن من القاضي إذا رأى أن ذلك من مصلحة الطفل، وذلك استنادًا إلى قانون الأحوال الشخصية اليمني الذي نص في المادة (145) على أن للحاضن نقل الطفل ما لم يكن في ذلك ضرر مادي أو معنوي أو أخلاقي، كما أعطى للولي حق الاعتراض أمام المحكمة إذا رأى أن في التنقل ضررًا على المحضون."
تحايل على القانون
ومن ناحية أخرى، استطاع والد أطفال وزيرة النجار نزعهم منها بعد أن تزوجت، وعندما انفصلت وطالبت بعودتهم وحكمت لها المحكمة بذلك، رفض والد الأطفال إعادتهم إليها، وأخذهم إلى مكان بعيد لم تتمكن من معرفته إلا بعد عام وبمناشدات إنسانية. وقد استطاع إصدار جوازات سفر لهم ونقلهم إلى مصر دون علمها، كما منعهم من التواصل معها لمدة عام. وزيرة وجهت نداءً تستغيث فيه بعودة أطفالها، مؤكدة أن فراقهم يكوي قلبها، ولأنهم في مكان لا تستطيع اللجوء فيه للقضاء لاستعادتهم، ما زالت تناشد عبر وسائل التواصل الاجتماعي بعودتهم.
الحضانة في قانون حقوق الطفل تعني: "حفظ الصغير الذي لا يستقل بأمر نفسه وتربيته ووقايته مما يهلكه أو يضره بما لا يتعارض مع حق وليه، وهي حق للصغير فلا يجوز النزول عنها، وإنما تمتنع بموانعها وتعود بزوالها".
إن العدالة الحقيقية تقتضي أن تُصاغ القوانين بما يضمن الإنصاف للطرفين ويضع مصلحة الأطفال فوق أي حسابات شخصية أو نزاعات انتقامية. فالأطفال ليسوا طرفًا في الخلاف، بل ضحاياه الأوائل، ويستحقون أن يكبروا في بيئة مستقرة وآمنة، ينالون فيها الرعاية والحب من كلا والديهم، دون قيود أو حرمان أو تمييز بين حقوق الأم والأب.
.png)
