سحر محمد

 

هروبًا من حرارة شمس صيف مدينة الحديدة، اختارت نسمة، 30 عامًا، السفر ليلًا، يرافقها أخوها الذي يعد بمثابة جواز سفر تحتاجه لتتمكن من التنقل عبر النقاط الأمنية التي يفرضها الحوثيون بين مدينتي الحديدة وتعز، فلا سفر للمرأة في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم إلا بـ "محرم"! خلال العامين الماضيين، ضيقت جماعة الحوثي الخناق على حرية تنقل النساء في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم، حيث شددت على وكالات السفر الداخلية، واشترطت اصطحاب المرأة لمرافق ذكر، أو الإتيان بوثيقة موافقة من ولي أمرها مهما كان مبررالتنقل، الأمر الذي صعب تنقل النساء حتى العاملات في مجال الإنساني، بحسب تقرير هيومن رايتس واتش

قبل عامين، حصلت نسمة على فرصة المشاركة في ورشة تدريبية تخصصية في الإعلام في مدينة عَمّان، ولكن سفرها كان مشروطًا بالحصول على اللقاح، بحسب القيود الاحترازية التي فرضتها كثير من البلدان ضمن سياسة التصدي لفيروس كورونا، ومنها الأردن.

لم يكن اللقاح متوفرًا في مدينتها الُحديدة، على الرغم من أن أول شحنة لقاح وصلت لليمن كانت في مارس /آذار من العام 2021م، ولكن قوات الحوثي المسيطرة على مدينة الحديدة وأجزاء من المناطق شمال اليمن منعت دخول اللقاح إلى مناطقهم، ما اضطر الكثيرات لتكبد عناء سفر طويل من أجل الحصول على اللقاح في مناطق سيطرة الحكومة.

"النساء اللاتي حرمنّ من اللقاح كنّ ضحايا لتسلط أبوي، سواء من قبل سلطة الحوثي، أو من قبل بعض الذكور الذين يسلبون النساء حق اتخاذ القرار"

توجهت نسمة إلى مستوصف طبي في إحدى المديريات الجنوبية لمدينة تعز، استمرت رحلتها في السيارة لأكثر من 13 ساعة تخللها توقف وتفتيش مع كل نقطة أمنية، إلا أنها لم تجد اللقاح متوفرًا في المستوصف، واضطرت للتوجه للمركز في قرية مجاورة سيرًا على أقدامها، فلم يكن بوسعها أن تدفع أجرة سيارة إضافية، تقول:"وصلت تكاليف رحلتي هذه لما يقارب الـ 200 دولار، فاضطررت أن أمشي ما يقارب الساعتين للوصول للمحطة الأخيرة، سلكنا طرقًا وعرة وغير آمنة، لقد كنا منهكين جدًا".

نسمة الآن تنتظر فرصة أخرى بعد أن لم يحالفها الحظ في فرصة السفر السابقة، بسبب متحور أوميكرون وفرض قيود إغلاق مشددة في أغلب البلدان في أواخر العام 2021م.

سلطة قوات الحوثي ليست الوحيدة التي حرمت اليمنيات من الحصول على اللقاحات، فالعديد من النساء في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة أيضَا لميُسمح لهنّ بالحصول على اللقاح على الرغم من توفره في هذه المناطق، فقد منع رجال بعض العائلات نساءهم من أخذ اللقاح، رغم اقتناعهنّ بضرورة أخذه للحماية من فيروس كورونا، إلا أن السلطة الأبوية كانت أقوى منهنّ.

تروى لنا ماجدة الكلدي، 28 عامًا: "قررت أخذ اللقاح عند توفره في مدينة المكلا، وأبلغت زوجي بأني أنوي الذهاب لأحصل عليه، ولكني تفاجأت بمعارضته (ما فيش روحه للمركز) قال لي متحججًا بأن اللقاح قد يكون له مضاعفات مستقبلية"، روت الكلدي الموقف والكلام يخرج منها بصعوبة بسبب حلقها المتورم من الالتهابات المتكررة التي تصيب جهازها التنفسي بين فترة وأخرى.

وأكدت 11% من النساء في المناطق التي توفرت فيها اللقاحات (تعز وحضرموت والمهرة) أنهنّ منعنّ كما ماجدة من أخذ اللقاح من قبل أقاربهنّ الذكور،وذلك بحسب استبيان إلكتروني أعددناه حول مدى وصول اليمنيات للقاح كورونا شاركت فيه57 امرأة من أكثر من 8 محافظات.

بعض أولئك النساء رفضنّ الخضوع للسلطة الذكورية، كفخرية سيف، 39 عامًا، من سكان مدينة تعز، حيث حاول زوج فخرية الضغط عليها لمنعها من تلقي اللقاح، إلا أنها أصرت وخاضت مشاجرات عنيفة في سبيل إقناعه، تقول فخرية:"أخذت جرعة اللقاح في النهاية على الرغم من معارضة زوجي".

النساء اللاتي حرمنّ من اللقاح كنّ ضحايا لتسلط أبوي، سواء من قبل سلطة الحوثي التي اتخذت قرارًا غير مسؤول بمنع دخول اللقاح لمناطق سيطرتهم، أو من قبل بعض الذكور الذين يسلبون النساء حق اتخاذ القرار.

وتعتقد الناشطة النسوية، الهام مانع، أن النزاعات والأزمات الصحية مثل جائحة كورونا تعزز التمييز الممنهج ضد المرأة في المجتمعات الذكورية،وتقول: "كشفت تجربة كوفيد واللقاح في اليمن كيف تتحمل النساء تبعات قرارات السلطة الأبوية، وخاصة النساء من الطبقات الفقيرة والمهمشة".

النساء ضحايا الوباء المعلوماتي

الإشاعات والمعلومات المغلوطة ساهمت في تردد الكثير حول العالم عن تلقي اللقاح، وفي اليمن لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي فقط من نشرت المعلومات المضللة، بل ساهمت القيادات الحوثية في شمال اليمن في نشر الشائعات والتشكيك بمصداقية اللقاح في العلن أيضًا، بحسب تقرير صادر عن مؤسسة هيومان رايتس ووتش عام 2021م.

"39% من النساء اللاتي رفضنّ أخذ اللقاح، في المناطق التي تتوفر فيها اللقاحات، قررنّ الامتناع عن تلقيه نتيجة المخاوف المتعلقة بالمعلومات المغلوطة التي تلقينها"

وقد نشر العديد من مسؤولي الحوثيين معلومات مضللة حول كورونا قائلين إن الفيروس "مؤامرة أمريكية"، كما أشار القيادي الحوثي، عبدالملك الحوثي، في كلمة متلفزة على قناة المسيرة التلفزيونية مضيفًا: "يتحدث البعض من الخبراء في الحرب البيولوجية أن الأمريكيين اشتغلوا منذ سنوات للاستفادة من فيروس كورونا ونشره في مجتمعات معينة"، الأمر الذي ساهم في زيادة الوباءالمعلوماتي الذي لاقى رواجًا في الأوساط اليمنية، وبالأخص بين النساء.

الأمر الذي ساهم في زيادة الوباء المعلوماتي الذي لاقى رواجا في الأوساط اليمنية وبالأخص بين النساء، حيث نسبة النساء المتعلمات في اليمن لا تتجاوز 35 %، وهو ما أكدته دراسة " المعلومات المغلوطة حول كوفيد19 ومدى القابلية لأخذ اللقاح أصدرت في فبراير من العام 2021 قام بها عدد من الباحثين اليمنيين. واستهدفت 484 يمنيًا ويمنية من أربع محافظات، وخلصت إلى أن النساء غير المتعلمات كن أكثر قبولًا للشائعات حول اللقاح، وبالتالي أكثر ترددًا ورفضًا للمبادرة بأخذه.

وعلى الرغم من مرور عامين على وصول أول دفعة لقاح لليمن، لا زالت الشائعات تهيمن على الأوساط اليمنية، وبالأخص بين النساء، وبحسب الاستبيان الإلكتروني الذي أعددناه تبين أن 39% من النساء اللاتي رفضنّ أخذ اللقاح، في المناطق التي تتوفر فيها اللقاحات، قررنّ الامتناع عن تلقيه نتيجة المخاوف المتعلقة بالمعلومات المغلوطة التي تلقينها، مثل أنه"يؤثر على الخصوبة لدى الجنسين"، و"له مضاعفات مستقبلية قد تصل إلى الوفاة"، بينما تعتقد 26% منهنّ أن اللقاح ليس مهمًا و لا حاجة له، علمًا أن97٪ منهنّ متعلمات بين جامعي وثانوي، أما عن مصدر المعلومات التي تتلقاها النساء، فأشارت 37% أنهنّ تلقينّ معلوماتهنّ من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، بينما استقت 23% منهنّ ما تعرفه من وسائل التواصل الاجتماعي، مثل الواتس آب والفيسبوك، فيما اعتمدت 36% من النساء على كلام المحيطين من الأهل والأصدقاء، و 4% اعتمدنّ على البحث والقراءة عبر محرك البحث جوجل.

وتتوافق نتائج استبياننا مع نفس الدراسة التي تم الإشارة لها مسبقًا، حيث تبين أن 40% من اليمنيين/ ات يعتقدون/نّ أن الفيروس صناعة بشرية، وتم تطويره في المختبر ضمن نظرية المؤامرة، وقد بيّنت هذه الدراسة أن النساء كنّ أقل قابلية لتلقي اللقاح.

"في مدينة تعز بلغت نسبة النساء اللواتي أخذنّ اللقاح 35%، في المقابل كانت نسبة الملقحين من الذكور الضعف، تقريبًا 65%"


وأثبتت دراسة أعدت في مدينة المكلا، في أواخر أكتوبر من العام 2021م، أن 92% من نساء العينة لم يكنّ لديهنّ أية معلومات حول اللقاح، وانعكس ذلك برفض 62% منهنّ لأخذ اللقاح، وشملت الدراسة العاملين في القطاع الصحي في المكلا، وكشفت عن حجم شح المعلومات حول اللقاح حتى في الطواقم الطبية النسوية، حيث إن 75% ممن شملتهنّ الدراسة أوضحنّ أن ليس لديهنّ أي خلفية حول اللقاح، وبالتالي وصلت نسبة الرفض لتلقي اللقاح إلى 85%.

وفي دراسة نشرتها مجلة Nature في أغسطس من العام 2022م، وجدت أن المعلومات المضللة المنتشرة حول لقاح كورونا دفعت بالمتفاعلين معها إلى رفض اللقاح، أو ما أصبح يعرف "بتردد اللقاح"، وهو ما أثبته الاستطلاع الذي أجريناه، حيث أن 23% من النساء الملقحات أفدنّ بأنهنّ لم يبادرنّ لأخذ اللقاح عن اقتناع، وإنما اضطررنّ لأخذ جرعة اللقاح بغرض السفر.

ويتطابق ذلك مع المعطيات الواقعية، إذ تشير الإحصائيات الصادرة عن مكتب الصحة في تعز أن النساء أقل وصولًا للقاح من الرجال في اليمن، ففي مدينة تعز بلغت نسبة النساء اللواتي أخذنّ اللقاح 35%،في المقابل كانت نسبة الملقحين من الذكور الضعف، تقريبًا 65%، وعلى الرغم من توفراللقاح حاليًا في معظم المراكز الصحية في تعز، إلا أن الإقبال على اللقاح انخفض بشكل ملحوظ، ويعزو تيسير السامعي، المسؤول الإعلامي لمكتب الصحة، أسباب ذلك إلى "تخفيف القيود الاحترازية للسفر في كثير من البلدان، كما أن الكثير يرفض اللقاح مؤخرًا بحجة أن الفيروس لم يعد موجودًا"، بحسب قوله.

النساء آخرًا

وقد تزايدت الحميات والأمراض الفيروسية بشكل ملحوظ في اليمن منذ بدء الجائحة إلى اليوم، بحسب الدكتور نبيل العامري، وهو إخصائي باطنية في مدينة تعز، ويقول د. نبيل: "في ظل غياب أدوات الكشف عن الفيروس عن أغلب المرافق الصحية، تظل الإحصائيات الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة التي تشخص حجم الإصابات بفيروس كورونا غير دقيقة"، مشيرًا إلى أن "الوضع الصحي في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثي والمحرومة من اللقاح أكثر مأساوية، وبالأخص للفئات الأقل ضعفًا مثل النساء والأطفال".

"وجدت دراسة أعدها مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، في يوليو من العام 2021م، أن ضعف وصول النساء للرعاية الصحية مقارنة بالرجال يعود للأعراف الاجتماعية"

وهو ما يلامسه جمال عبدالغني، طبيب الطوارئ في مستشفى الثورة في صنعاء، يقول: "هشاشة الوضع الصحي والاقتصادي، وغياب الثقافة الصحية لدى كثيرمن النساء، ساهما في تدهور صحة الكثير منهنّ، فاليمنيات لا يلجأن للأطباء إلاعندما يتمكن منهنّ المرض، وفي تلك الحالة لا يسعنا عمل الكثير لهنّ".

في بلد يشهد حميات موسمية متكررة، وفي ظل غياب أدوات التشخيص لفيروس كورونا، عادة ما يكون التعامل لدى الكثير، وبالأخص النساء، خاضعًا للثقافة الشعبوية في التداوي أو اللجوء لغير المختصين، يقول الدكتور عبدالغني: "استشارة المختصين أصبحت أسهل بتواجد الكثير على وسائل التواصل الاجتماعي، وقد يجنب النساء الكثير من العواقب الصحية، ولكن ثقافة التداوي لدى الكثير، وبالأخص النساء، هي مابين الوصفات الشعبية، أو تلك التي يصفها الصيدلاني الذي قد لا يكون مختصًا في بعض الأحيان".

وفي ظل الوضع الصحي المتردي في اليمن والحرب المستمرة، تعاني النساء مرتين من آثار الوباء، فقد وجدت دراسة أعدها مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، في يوليو من العام 2021م، أن ضعف وصول النساء للرعاية الصحية مقارنة بالرجال يعود للأعراف الاجتماعية، فمسؤولية الرعاية الصحية للمرضى في المنزل عادة على عاتق النساء، وأحيانًا كثيرة تكون المرأة آخر من يحصل على رعاية صحية، وجاء في هذه الدراسة بأن اللائمة "أُلقيت على النساء بسبب الوفيات داخل أسرهنّ، واتُهِمنّ بعدم رعاية المريض على نحو كاف".

 

 

تم إنتاج هذه المادة في إطار مشروع "أما بعد" بدعم من الوكالة الفرنسية لتنمية الإعلام