صنعاء/طارق الظليمي:

فرض فقر الأسرة والظروف الاقتصادية على "أسماء" وضع مولودها البكر في المنزل بعيدًا عن الرقابة الصحية المطلوبة، لكنها لم تكن تعلم عواقب إصابتها بالناسور الولادي الذي أصبح اليوم جرحًا لا يندمل لها ولآلاف النساء في اليمن.

الناسور الولادي هو ثقب بين المهبل والمثانة /أو المستقيم تسببه الولادة المتعسرة، ليصبح مخرجًا لتسرب البول والفضلات بشكل لا إرادي، ينجم عن الضغط المتواصل – جراء عدم تدخل طبي عاجل - لرأس الطفل على عظام حوض الأم ما يحرم الأنسجة من تدفق الدم إليها ويخلق ثقبًا أو ناسورًا "Fistula".

تقول أسماء (20عامًا)، وهذا اسمها المستعار:"عندما ذهبت إلى الطبيبة وكنت في الأشهر الأخيرة من الحمل، أكدت المختصة إلزامية الولادة بعملية قيصرية، لكن أسرتي تعيش تحت خط الفقر"، تضيف: "قالت لي عائلتي: اتركيها على الله يمكن تولدي ولادة طبيعية"، وهو ما عرضها للإصابة بالناسور الولاد يبعد مخاض عسير مع الولادة لم تحتمله حتى نُقلت إلى مرفق صحي خاص في محافظة الحديدة، غربي البلاد.

توضح: "أسعفوني إلى المستشفى وعند الولادة خرج كل شيء". ولّدتها طبيبة روسية " كان عليها أن تخيط المكان. لم تتمكن أسرتي من دفع أجور الترقيد لمتابعة حالتي، وهو ما أجبرني للخروج في اليوم الثاني من العملية".

كتمان وبكاء

ظلت الأم العشرينية أسابيع طائلة تجهش بكاءً وهي تشاهد خروج الفضلات والبول معًا كلما ذهبت إلى دورة المياه. كتمت أمرها وقتًا طويلًا، ولما علمت والدتها جاءت بقابلة اختصاصية لمعرفة السبب، فطلبت الأخيرة إسعافها بشكل فوري إلى مستشفى الثورة في صنعاء بعدما وجدت تمزق مكان البراز، وحاجته لعملية جراحية مستعجلة.

تقف الظروف الاقتصادية مرة أخرى عائقًا أمام سفرها إلى العاصمة اليمنية، لتجلس طوال الفترة حبيسة في منزل والدها ما فاقم حالتها النفسية، وقد علمت إلى ذلك أن زوجها الذي لم يسأل عنها في فترة مرضها، طلّقها، محملًا أسرتها أسباب الإصابة.

ويتضح أن الزوج لم يقف عند الطلاق فحسب،لكنه ذهب إلى القضاء مطالبًا بأخذ ابنته، وهو ما أدى إلى استدعاء والد أسماء وشقيقها إلى المحكمة. العائلة وجراء تضايقها من الإجراءات القضائية طلبت من أسماء إعطائه الطفلة، وهو ما جابهته الأم المنكوبة بالرفض "لا تحرموني من بنتي. ما أشتيه [لا أريده] يأخذ بنتي مني. أريد بنتي عندي"، وقد انهارت من البكاء.

لاحقًا وبعد عمليتين جراحيتين في وحدة الناسور الولادي، استعادت أسماء عافيتها بشكل طبيعي، فيما لا تزل سوسن (20 عامًا) ترقد في مستشفى الصداقة، بعد نحو أربعة أشهر من اكتشاف تسرب البول والفضلات على الرغم من وجود قسطرة وُضعت لها عندما أجرت عملية قيصرية بعد مخاض مُنهك استمر 48 ساعة تسبب بإحداث ثقب كبير، أفقدها طفلها الثاني على التوالي، أغسطس/آب 2020.

سوسن قطعت 825 كيلومترًا، قادمة من محافظة المهرة، شرقي اليمن، إلى العاصمة المؤقتة عدن، كبرى المدن الجنوبية، بعدما تلقت إرشادات من إحدى الطبيبات في المنطقة، تفيد إصابتها بالناسور الولادي الذي أدخلها وضعًا صحيًا ونفسيًا حرجًا.

وإلى جوار أسماء وسوسن توجد آلاف النساءالمصابات بالناسور، بينما تنتظر أخريات دورهن لإجراء عملية جراحية مُلزمة، كما هو حال سعاد (22 عامًا) من محافظة عمران، شمالي العاصمة اليمنية، بعدما عادت من مستشفى الثورةفي صنعاء بخفي حنين؛ نظرًا لازدحام جدول العمليات، على أمل أن تجريها في يناير/ كانونالثاني 2021.

أرقام إيجابية

يوضح الرسم البياني إجراء نحو 305 عملية ناسور ولادي خلال الثمان السنوات الماضية، منها 217 عملية جراحية في مشفى الثورة بصنعاء،و88 عملية أخرى بمشفى الصداقة في عدن.

كما أجرت هاتان الوحدتان المدعومتان من صندوق الأمم المتحدة للسكان نحو 49 عملية جراحية عام 2020، حيث لا تزال 85 امرأة علىمقاعد الانتظار والخروج من العزلة المجتمعية، بحسب فطوم نور الدين الأمين العام لجمعيةا لقابلات اليمنيات.

تضيف: "قدمت الجمعية خطة لتحديد حجم المشكلة، منها دورات تحري في المدن والقرى للقابلات، فيما تمكنت من الوصول لحالات عبر قابلات أخذن كرسًا تدريبيًا على مستوى المديريات لفنون التعامل مع الحالات الحرجة إلى جانب العيادات الخارجية في المستشفيات المركزية، إلى جانب توعية قادها إعلاميون مدربون على العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي".

ولا تخفي نور الدين أن قلة مراكز معالجة الناسور يمثل ضغطًا كبيرًا على الفريق الاختصاصي المكوّن من أربع قابلات في الوحدة الصحية، إلا أن هذا الطاقم يكتفي بيومين في الأسبوع لحالات الناسور، على أن يُخصص الأحد لفحص الحالات والتحضير للعمليات، والثلاثاء لإجراء العملية.

وتمضي الوحدتان بإمكانيات ضئيلة للتخفيف من معاناة آلاف النساء، في حين تعمل المرافق الصحية في اليمن بنسبة 45% فقط من طاقتها الاستيعابية؛ بسبب شحة المستلزمات الطبية وتضرر نحو 275 مرفقًا صحيًا جراء النزاع، ما حرم حوالي 16.4 مليون شخص من خدمات الرعاية الصحية الأساسية.

نجاح وصعوبات

أنشئت أول وحدة للناسور الولادي في صنعاء عام 2010، وبعد نحو عامين أسست وحدة أخرى بمحافظة عدن الجنوبية، وهما الوحدتان المتخصصتان لإجراء هذا النوع من العمليات، وفقًا للدكتورة أفراح الأديمي مسؤولة الصحة الإنجابية في مكتب صندوق الأمم المتحدة للسكان.

تقول الأديمي: "نسبة نجاح عملية الناسور تصل إلى 90%، بينما لا نزال نفتقر لمسح وطني شامل لمعرفة حجم المشكلة؛ لعدم وجود إحصائيات عن عدد حالات الناسور في البلد الذي تموت فيه امرأة كل ساعتين أثناء الولادة، فيما تعاني 20 امرأة أخرى من إصابات أو عدوى أو إعاقات يمكن الوقاية منها، وتتم 6 ولادات من أصل 10 بدون قابلة ماهرة".

تضيف "الصعوبات والتحديات التي تواجه الصندوق الأممي جمة، منها الدعم المالي وقلة الكوادر المدربة، بالإضافة إلى عدم إعطاء الأولوية من قبل إدارة المستشفيات للنساء المصابات بالمرض".

وتؤكد المسؤولة الأممية أن صندوق الأمم المتحدة للسكان يقدم إلى جوار العمليات المجانية للمصابين بالناسور كل تكاليف الإقامة للمرضى، بما في ذلك سكن مرافقين.

الأكثر شيوعًا

وهناك نوعان أكثر شيوعًا من الناسور الولادي هما المهبلي الشرجي والمهبلي البولي، ينتجان بسبب الولادة المتعسرة بدون إشراف طبيأ و أيادي ماهرة، بينما الأكثر عرضة للإصابة بهذا المرض هن الأكثر فقرًا، وصغار السن،إلى جانب الحمل المبكر والولادة المتكررة، حسب الأديمي.

وتوفيت نحو 147 امرأة أثناء الولادة في المحافظات الجنوبية، منذ مطلع العام 2020 حتى نهاية نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه.

ووفقًا للأمم المتحدة، ثمة أكثر من مليونامرأة حامل ومرضعة حاليًا يعانين من سوء التغذية، فيما من المحتمل وفاة امرأة بنسبة1 من 60 أثناء الحمل أو الولادة، حيث هناك 4 نساء من كل 10 لا يتلقين رعاية ما قبل الولادة.

وتضع الدكتورة إقبال ناجي، وهي رئيس قسم وحدة الناسور في مستشفى الصداقة التعليمي بعدن، محاربة الزواج المبكر والتأخر في الإنجاب وتقصي الحالات ذات الخطورة العالية لحدوث ولادة متعسرة من خلال المتابعة المبكرة للحوامل، على رأس الأولوية الوقائية من الإصابة بهذا المرض الصامت، إلى جانب التفريغ المستمر للمثانة باستخدام قسطرة بولية لفترة لا تقل عن أسبوعين، سواء كانت الولادة طبيعية أم متعسرة، حد قولها.

فيما تحتاج الناجية من الناسور حولين كاملين حتى تتمكن من الإنجاب مجددًا عبر عملية قيصرية مبرمجة ورقابة طبية مستمرة، كما تُمنع6 أشهر من العلاقة الحميمية ، وفقًا للدكتورة خولة اللوزي، مشرفة وحدة الناسور بمشفى الثورة بصنعاء.

تقول اللوزي ، أن المصابة بالمرض الصامت تتعرض للعزلة والخجل وعدم الاختلاط بالآخرين خلال مرحلة الإصابة ، نتيجة الرائحة الملازمة لها، وصولًا إلى التفكك الأسري و الطلاق ، في حين تُقدم للناجيات إرشادات تعليمية ونفسية للخروج من حالة الانعزال القسري اللائي يعشنها.

توضح، أنها تتبعت طبيًا أربع ناجيات على الأقل حتى أمكنهن وضع مواليدهم عبر عملية قيصرية مبرمجة.

وكان صندوق الأمم المتحدة للسكان أطلق عام2003، حملة موسعة تشمل 40 دولة منها اليمن، للقضاء على الناسور الولادي، في حين هناك2 مليون امرأة مصابة بهذا المرض حول العالم، حيث يسجل ما بين 50 إلى 100 ألف حالة جديدةسنويًا.