فاطمة العنسي

تعد تجربة الحمل والولادة من اللحظات الرائعة التي لا يمكن نسيانها في حياة الأم والأسرة، بيد أن ظاهرة "عنف التوليد" أضحت صدمة عارمة وندبة محفورة على صحة الأم وحياتها، ليس فقط في تلك الساعات العصبية أثناء الولادة، وإنما فيما بعد.

وعلى الرغم من الاعتراف بوجود "عنف التوليد" في أوساط النساء، مع اعتراف خجول من قبل الكوادر الصحية العاملة في ذات المجال، إلا أنه من المؤسف التغاضي عنه في الغالب، وترجح الأسباب ذلك إلى السياسة العامة التي تقوم على تعقيد الأمر من أجل منعه والقضاء عليه، إضافة إلى تخوّف بعض النساء اللاتي تعرضنّ له من ذكر تجاربهنّ أمام الملأ.

سيناريو مرعب

"تركوني وحيدة أصارع الموت بولادة ابنتي، كلما استنجدت بهنّ يصرخنّ في وجهي، ويجاوبنّ بكل برود: مشغولات الآن، كانت ضحكاتهنّ تتعالى ومواضيعهنّ تافهة أمام آلامي التي كانت تشتد كل دقيقة، بالإضافة إلى ذلك فقد كنت في غرفة واسعة نوافذها مفتوحة، ولا أملك حتى لحاف يقيني شدة البرد بحجة أني سأوسخه".

وتتابع هديل محمد،  19عامًا، لـ "هودج"، والتي وَلدت في مستشفى حكومي بصنعاء: "تركوني أتوجع حتى وَلدت من نفسي، كنت أصرخ: خلاص وَلدت، أتت إحدى القابلات مسرعة لإخراج الطفلة وتركتني دون بطانية، كنت أترجاهنّ من شدة البرد وكنّ يتجاهلنني. خرجت بعد ساعتين، وحتى الآن أرفض الحمل مجددًا، على الرغم من أن طفلتي قد أصبحت بعمر جيد، ولكن سيناريو الحدث ما يزال يمر أمامي بكل وجعه".

"طلبت مني الدكتورة المناوبة أن أقوم بالدفع، كنت أدفع وأشعر أن وجهي وعروقي تخرج من مكانها، بعدها قامت بقطع العجان، وأخرجت الجنين بدفعة واحدة"

وتؤكد نضال الشيباني، أخصائية نفسية بمركز السلام، أن الكثير من النساء يتعرضنّ خلال الولادة للإساءة النفسية واللفظية من قبل الكادر الطبي بممارسة ألفاظ جارحة تسيء لهنّ، وقد يتعرضنّ للعنف الجسدي من خلال الضغط والكدمات على بطن الأم، "مما يؤثر في نفسيتها، وينتج عنها اضطرابات وخوف وقلق، ويراودهنّ كوابيس أثناء نومهنّ، وقد يترددنّ أو يمتنعنّ عن تكرار تجربة الحمل، وتسمى هذه الحالة بـ "توكوفوبيا"؛ خوفًا من تكرار سيناريو الولادة الأولى، إذ أنه يظل عالقًا في أذهانهنّ، خلافًا عمّا قد يظهر في تعاملهنّ مع أزواجهنّ وأبنائهنّ، ويسبب لهنّ عديد مشاكل نفسية واجتماعية".

وتوضح الشيباني أن ممارسة العنف بشتى أنواعه لها تأثير سلبي على الأمهات وأيضًا الأطفال، وليست فعل إيجابي كما تدعي أغلب القابلات والممرضات، أو أنه يؤدي إلى تسهيل وسرعة الولادة، فضلًا على أن آثاره وتداعياته تظل عالقة في ذهن الأم.

"مجزرة وليست ولادة"

تصف أمة الرحمن سعيد (اسم مستعار)،  26عامًا، ما تعرضت له لمجزرة وليست ولادة، وتضيف: "وَلدت في إحدى المستشفيات الخاصة، طلبت مني الدكتورة المناوبة أن أقوم بالدفع، كنت أدفع وأشعر أن وجهي وعروقي تخرج من مكانها، بعدها قامت بقطع العجان (المنطقة بين المهبل والشرج)، وأخرجت الجنين بدفعة واحدة، تسبب ذلك في قطع كبير جدًا، خيطت لي 30 غرزة فقط لأنه لا يوجد لديها الوقت للصبر عليّ".

"أكدت الأمم المتحدة أنها عالجت خلال الـ 25 السنة الماضية أشكالًا جديدة ومستجدة من العنف على النساء مثل سوء المعاملة والعنف ضد المرأة أثناء الولادة"

وتتابع سرد قصتها لـ "هودج": "خرجت من غرفة الولادة أبكي على كرسي متحرك، وتركوني في غرفة أخرى من الساعة الـ 3 فجرًا حتى الـ 8 صباحًا، حصلت لي مضاعفات ونزيف ودوار دون وجود أي ممرضة للاطلاع على حالتي. قمة الاستهتار واللامسؤولية".

تقديرات

تعرف منظمة لامازا الدولية (Lamaze) عنف التوليد بأنه كل إساءة أو اعتداء جسدي أو جنسي أو لفظي أو التنمر أو الإكراه والإذلال والاعتداء الذي يحدث للنساء أثناء عملية الولادة من قبل الطاقم الطبي، بمن في ذلك الممرضات والأطباء والقابلات، ويشمل تعرض المرأة أثناء المخاض أو الولادة لسوء المعاملة وعدم احترام حقوقها، بما في ذلك إجبارها على اتخاذ إجراءات ضد إرادتها على أيدي الكادر الطبي.

وكشف تقرير لصندوق الأمم المتحدة للسكان في اليمن عن وفاة امرأة واحدة كل ساعتين أثناء الولادة، وأن مليون امرأة حامل ومرضع تعاني من سوء التغذية الحاد، كما أكدت الأمم المتحدة أنها عالجت خلال الـ 25 السنة الماضية أشكالًا جديدة ومستجدة من العنف على النساء مثل سوء المعاملة والعنف ضد المرأة أثناء الولادة، بما في ذلك عنف التوليد الذي تم تعريفه على أنه انتهاك لحقوق الإنسان لأول مرة في التقرير المقدم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الأول/ أكتوبر 2019م.

"قطع العجان للمرأة خلال الولادة للضرورة وليس لتسريع الولادة كما هو شائع، إنما للحفاظ على صحة الجهاز التناسلي للأم"

وتشير التقديرات إلى أن نحو ستة ملايين من النساء والفتيات في سن الحمل والإنجاب (من 15 إلى 49 سنة) يحتجنّ إلى الدعم، وبسبب النقص المتزايد في المواد الغذائية تعاني أكثر من مليون امرأة حامل من سوء التغذية، وهنّ معرضات لإنجاب أطفال يعانون من التقزم، بالإضافة إلى أن هناك 114,000 امرأة معرضة لخطر أن يصبنّ بمضاعفات أثناء الولادة، وفق تقرير صندوق الأمم المتحدة للسكان.

القابلات حظوظ

وتعتبر سعاد وليد، 30 عامًا، أن القابلات حظوظ، فليس كل القابلات أو الطبيبات عنيفات، بل هناك من هي كالأم حنونة وتعطي طاقة إيجابية للمرأة بشكل كبير، تقول لـ "هودج": "الحمد لله الذي وضعني عند ممرضات وطبيبة طيبة، لم أسمع منهنّ أي كلمة أثرت في نفسيتي، بل كُنّ رحيمات وعطوفات جدًا عليً لدرجة أنى كنت أَلد وأنا أدعي لهنّ. مواقف صعبة مثل هذه لا تنسى ولا نستطيع أن نجازي أصحابها".

ضرورة

وترى طبيبة النساء والتوليد بمستشفى السبعين، داليا السقاف، أن قطع العجان للمرأة خلال الولادة للضرورة وليس لتسريع الولادة كما هو شائع، إنما للحفاظ على صحة الجهاز التناسلي للأم، تقول لـ "هودج": "قطع العجان لا يعتبر عنفًا، هو من صالح الأم، ممكن أن يحدث للأم ناسور ولادي أو فتح شرجي أو تمزقات وغيرها بسبب ضغط الجنين وقتها، نحن كطبيبات نحاول جاهدات ألا نقطع العجان أو توسيعه إذا كان الرحم مناسبًا لخروج الرأس دون وجود أي أضرار على الأم".

سوء معاملة

من جانبها، ترى رئيسة الجمعية الوطنية للقابلات اليمنيات، الدكتورة سعاد قاسم، أن النساء لا يتعرضنّ للعنف، وإنما تتعرض البعض منهنّ إلى ما يمكننا أن نطلق عليه "سوء معاملة" من قبل الكادر الصحي، مؤكدة: "لا نلتمس العذر لأي قابلة عضوة في الجمعية، ومن تقوم بهذه التصرفات غير الإنسانية يتم محاسبتها، وفي نفس الوقت نستمر في التوجيه والإرشاد وتوزيع دليل أخلاقيات المهنة لتوعيتهنّ بالأسلوب الصحيح والإنساني لمعاملة النساء في غرف التوليد".

"القوانين المتعلقة بالأخطاء الطبية وممارسة مهنة الطب، وبإنشاء المجلس الطبي ومهامه، تعطي الحق لمن تعرض لأي خطأ طبي التقدم بشكواه إلى النيابة العامة"

وتضيف: "في حال تلقينا أي شكوى تتعلق بتعرض أي امرأة إلى سوء معاملة من قبل أي قابلة عضوة في الجمعية الوطنية للقابلات اليمنيات، لدينا إجراءات قانونية لمحاسبتها بعد التأكد والتحقيق في الشكوى، وقد توصل العقوبة إلى فصلها من عضوية الجمعية".

وتتفق السقاف وقاسم على أن أسباب ممارسة "سوء المعاملة" من قبل الكادر الصحي تعود إلى الضغوط النفسية والوضع المعيشي المتدهور والمشاكل الخاصة التي لا يستطعنّ القابلات البوح بها أو مواجهتها، وإلى أن بعضهنّ يأتينّ للعمل مرغمات بسبب الوضع الاقتصادي، فضلًا عن بقائهنّ في المناوبة مدة 12 ساعة بوجود مردود مالي ضئيل، مؤكدتان على أنه "لا يُسمح لهنّ بممارسة أي شكل من أشكال سوء المعاملة على الرغم من ذلك، فالطب مهنة إنسانية".

"النساء يمتنعنّ عن رفع دعاويهنّ فيما يتعلق بتعرضهنّ للعنف خلال الولادة؛ خشية الفضيحة أو المسائلة"

من جانبها، تؤكد مديرة الشؤون القانونية باتحاد نساء اليمن، علياء الحامد، لـ "هودج"، على عدم وجود إحصائية للاتحاد حول المعنفات أثناء التوليد؛ بسبب اعتقاد سائد بين النساء وأسرهنّ بأنه ليس بمقدورهم تقديم شكوى أو بلاغ للجهات المسؤولة حول ما يتعرضنّ له من "عنف توليدي" في المستشفيات أو حتى في المنازل على يد "الداية" (قابلة شعبية عادة ما تكتسب المهنة بالوراثة).

قوانين

من جهته، يقول المحامي هشام بازرعة إن القوانين المتعلقة بالأخطاء الطبية وممارسة مهنة الطب، وبإنشاء المجلس الطبي ومهامه، تعطي الحق لمن تعرض لأي خطأ طبي التقدم بشكواه إلى النيابة العامة، إلا أن النساء يمتنعنّ عن رفع دعاويهنّ فيما يتعلق بتعرضهنّ للعنف خلال الولادة؛ "خشية الفضيحة أو المسائلة أو كما يطلقنّ عليها الجرجرة والشرشحة في المحاكم"، منوهًا إلى ضرورة عدم سكوت النساء على حقهنّ في حال تعرضنّ لأي أذى، وأن بإمكانهنّ التمسك بقانون ممارسة المهن الطبية وقانون إنشاء المجلس الطبي، واللذين يتناولان أية أضرار قد يتعرض لها المريض في المستشفيات أو أية ممارسات لا إنسانية شريطة إقامة الدليل البين على ذلك، حد تعبيره.

توصيات

توصي الدكتورة السقاف بعمل دورات دعم نفسي للقابلات والكادر الصحي، وتنصح بزيادة عدد الطبيبات والكراسي لاسيما في المستشفيات التي تشهد إقبالًا جماهيريًا كبيرًا، بالإضافة إلى عمل مساحات واسعة لإمكانية دخول الزوج مع زوجته خلال الولادة؛ "لأنها عندما تدخل وحدها تشعر بالخوف ووضعها النفسي يكون سيئًا