منى الأسعدي

"لقد تحولت فرحتنا إلى عزاء" بهذه العبارة تصف وفاء موت أبنة عمها العشرينية أثناء محاولة الولادة في المنزل بمدينة إب وسط اليمن، فبعد مخاض عسير نزفت على إثره كثيرًا، أسعفها زوجها إلى مستشفى خاص لكن الطبيبة قالت إن ذلك كان متأخرًا لتفارق الحياة هي والجنين..

وتذكر وفاء أن ما زاد مأساتهم أن إحدى الطبيبات كانت قد أخبرت الأم في زيارتها الوحيدة للمراجعة الطبية بأن حالتها غير مستقرة وبحاجة إلى مراجعة طبية مستمرة، وقد تحتاج إلى ولادة قيصرية وسيتم تحديد ذلك خلال الأشهر الأخيرة من الحمل، وتتابع: "لكنها أهملت ذلك بسبب الظروف المادية الصعبة وكانت تتجاهل الألم الذي تشعر به مرجحة أنه ألم طبيعي مصاحب للحمل".

حدث تصفه وفاء بأنه حزين وصادم غير أنه واحد من مشاهد متشابهة تحدث مع ضحايا كثر، إذ تقول سميرة (25 عامًا)، من صنعاء: وضعته ميتا. تصمت لبرهة وتتابع:"بدلًا من أن أعيش فرحة إنجاب مولود جديد بعد رحلة حمل شاقة عانيت فيها كثيرا وضعته ميتا ودخلت في حالة كآبة شديدة".

وتصف سميرة (اسم مستعار) بأن ولادة طفل ميت تجربة مؤلمة، وبالرغم من مرور أشهر على الحادثة إلا أنها لا تستطيع تجاوزها، وتقول: "أشعر بالخوف من خوض تجربة مشابهة مرة أخرى!"، مشيرة إلى أنها لم تزر طبيبة نساء وولادة خلال حملها إلا مرة واحدة.

  قصص تجسد معاناة النساء في البلاد جراء الحرب الممتدة لتسع سنوات وهو ما أنهك النظام الصحي وأوصل الخدمات العامة الأساسية للأمهات والأطفال إلى حافة الانهيار، فبحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان، فإن اليمن تعاني أعلى معدل وفيات بين الأمهات في المنطقة، وتقدر بـ 164 حالة وفاة لكل 100 ألف ولادة حية. و5.5 ملايين امرأة وفتاة في سن الإنجاب يعانين من عدم الوصول إلى خدمات رعاية الصحة الإنجابية، وأن 6 من بين كل 10 ولادات تتم دون قابلة مؤهلة، بينما تعاني 1.5 مليون من النساء الحوامل والمرضعات من سوء التغذية الحاد.

 في حديث خاص تقول الدكتورة منى الذبحاني، أخصائية نساء وتوليد في مركز صحة الأم والطفل بصنعاء: "إن إهمال المراجعة الطبية أثناء الحمل له مخاطر عديدة قد تؤدي إلى موت الأم أو الجنين في بعض الحالات، ومن بينها تعسر الولادة لأسباب منها ضيق الحوض أو عدم انفتاح الرحم والذي يعني أن عنق الرحم لم يتوسع بما يكفي لتمرير الجنين من خلاله، ما قد يؤدي إلى نقص الأكسجين للجنين، وهو ما قد يتسبب في موت المولود أو إعاقته.

وتتابع: "أحيانا تصلنا حالات وقد مات الجنين وحين نتأكد أنها لم تتعرض لأي حادث، نجري لها عدة فحوصات فتظهر أنها أصيبت بسكري الحمل ولم تكن تعلم!" مشيرة إلى أن المراجعة الطبية يمكنها أن تحد من أي مخاطر محتملة مثل داء السكري والذي يحتاج إلى نظام غذائي خاص وبعض الأدوية.

وتؤكد الذبحاني بأن أغلب وفيات الأمهات تكون بسبب النزيف الحاد إذ تقول: "البعض تهمل المراجعة الطبية خصوصًا في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة متشجعة ببقية النساء اللاتي لا يزرن الطبيبات، وهنا تنجوا البعض لكن البعض قد تواجه مخاطر عدة منها ما قد يؤدي إلى الوفاة".

وفي حديث خاص يقول مسؤول الإعلام بصندوق الأمم المتحدة للسكان في اليمن، طه ياسين: "نتيجة لتسع سنوات من الصراع الذي لايزال، وانهيار الاقتصاد وغيرها من الكوارث الطبيعية، كلذلك تسبب بتداعيات على كل القطاعات والمستويات بما في ذلك الوصول إلى الخدمات الأساسية كخدمات الصحة الأولية والرعاية الصحية الإنجابية".

موضحًا بأن "معدل الوفيات بين الأمهات في اليمن هي الأعلى في المنطقة، يعكس أن النساء في اليمني شكلن واحدة من أشد الفئات ضعافًا وتضررًا بالأزمة، ويعانين من صعوبة الوصول لخدمات الصحة الإنجابية بما في ذلك الطوارئ التوليدية والرعاية لحديثي الولادة".

ويوضح: "الاستجابة للاحتياجات الملحة في مجال الصحة الإنجابية هي في صميم مهمة صندوق الأمم المتحدة للسكان وأحد أهم برامجه في اليمن، فيقدم خدمات الصحة الإنجابية الحيوية والأدوية مع التركيز على الطوارئ التوليدية ورعاية حديثي الولادة لتقليص حالات الوفيات بين الأمهات، إذ أنه خلال 2022 حتى بداية ديسمبر 2023، تم إيصال خدمات الصحة الإنجابية إلى أكثر من 2 مليون وسبعمائة ألف امرأة، في 22 محافظة من خلال 109 مستشفى ومركز صحي، و4 فرق طبية متنقلة".

وأكد ياسين بأن هنا كتحديات تقف أمام وصول بعض النساء إلى خدمات الصحة الإنجابية في اليمن، منها "تسبب الصراع بدمار كبير لنظام وقطاع الرعاية الصحية، فأقل من نصف المستشفيات هي التي لاتزال تعمل، ومرفق واحد من كل 5 مرافق صحية عاملة، قادر على تقديم خدمات الأم والطفل".

معتبرًا أن "الأزمات الإنسانية والصراعات ونقص التمويل تعيق جهود الدول لتقليص وفيات الأمهات وتتضاعف هذه الإعاقة نتيجة غياب القابلات المجتمعيات المؤهلات وزيادة قيود الوصول، وتتضرر التغطية الكبيرة لخدمات الصندوق وإيصالها إلى المناطق النائية وذات الاحتياج الكبير في البلد ما يحد أيضاً من وصول المجتمعات إلى الخدمات الأساسية".

ولفت ياسين إلى أن "غالبًا ما تكون أدوية الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة غير متوفرة، وتضطر النساء والفتيات المتزوجات لشرائها من السوق والكثير منهن لا يستطعن توفير تكاليف الشراء، كما أن أقل من نصف الولادات تتم بمساعدة طواقم طبية مؤهلة، وولادة واحدة من كل 3 ولادات تتم في مرفق صحي نتيجة النقص الحاد في الأدوية والإمدادات الأساسية والطواقم المتخصصة".

صدمة نفسية

"صدمة موت الجنين أو ولادة طفل ميت هي تجربة مؤلمة ومحزنة تمر بها الأم وتترك آثارا نفسية وجسدية طويلة الأمد إذا لم يتم التعامل معها بهدوء" بحسب جمانة عبده مدربة دعم نفسي، وتتابع في حديث خاص "هذه صدمة قاسية ولا يجب التهاون بها على الإطلاق، وعلى المجتمع أن لا يتهاون أو يتعامل باستخفاف مع الأم التي تفقد جنينها".

وتعتبر بأن الشعور بالفقد لا يتجزأ "الأم تشعر بالحزن حتى لو كان لا يزال جنين، فهي لا تتقبل فكرة أن تنام وفي أحشائها جنين يتحرك وتفقده في لحظات وبسهولة". وتشدد على أهمية تقديم الدعم النفسي للأمهات اللاتي يمرن بهذه التجربة، "الأشخاص حول الأم إذا كانوا غير قادرين على تخفيف حزنها فعليهم ألا يؤذونها بالتحجيم من الألم أو بالسؤال المتكرر عن الأسباب".

أما بالنسبة للأمهات فتوجه لهن إرشادات لتجاوز هذه الأزمة "إخراجي من دائرة تأنيب الذات، فالأم عليها أن تكف عن التفكير بأن الجنين كان بداخلها ولم تستطع أن تحميه وأنها السبب الأول في خسارته،"مشيرة إلى أن "هناك أجنة يحملون رسائل قصيرة وعلى الأمهات التركيز عليها لا أن يلمن ذواتهن ويدخلن في ضربات نفسية كبيرة".

كما تؤكد على أهمية "مواجهة الحزن لا الهروب منه فالخسارة ليست سهلة وتحتاج وقفة مع الذات ومواجهة للذكريات، وعلينا أن نرى الثياب والألعاب التي كنا قد اشتريناها ونبكي إذا ما شعرنا بالرغبة بالبكاء ونحزن وننوي أن تكون هنا النهاية".

كما تركز على "أهمية أن تعطي الأم لنفسها مساحة بعد التعافي النفسي للتعافي الجسدي، ولا تسعى لتعويض الخسارة بحمل جديد، فذلك قد يكون له أثار سلبية كبيرة، لهذا عليها أن تمنح نفسها الوقت والمساحة اللازمة للتعافي النفسي والجسدي للمرور من هذه التجربة بهدوء، ويمكن استقبال فكرة الحمل بعدأن تكون متأكدة أنها لن تمر بحالة رهاب من فقدان الجنين مرة أخرى".

انعكاسات سلبية

بحسب اليونيسف فإن امرأة وستة مواليد يموتون كل ساعتين في اليمن لأسباب قد يمكن الوقاية منها.. وهو مؤشر خطير إذ تمثل وفيات الطفولة مؤشرا غاية في الأهمية وتعكس مستوى الأداء والخدمات الصحية في بلاد ما ومدى سيطرتها على الأمراض وحالات سوء التغذية التي غالبا ما تكون سببا لغالبية الوفيات.. ويشير مفهوم وفيات الأطفال دون سن الخامسة إلى احتمال الوفاة بين الولادة وعمر 5 سنوات ويشمل معدل وفيات الأطفال حديثي الولادة ومعدل المواليد الموتى، معبرا عنه لكل 1000 مولود حي..

وتشير البيانات أن معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة كان قد انخفض في اليمن من 58.92 لكل ألف مولود حي عام 2010 إلى 58.5 حالة وفاة عام 2013، لكنه ارتفع خلال (2014-2022) من 58.5 حالة وفاة إلى 62.12 حالة وفاة لكل 1000 مولود حي وذلك ما يعكس تدهورًا ملحوظا للقطاع الصح يفي البلاد خلال سنوات الحرب.

يقول نبيل الشرعبي الصحفي المتخصص بالشؤون الاقتصادية: "يكاد يجمع الكل على أن القطاع الصحي في اليمن دفع فاتورة باهظة للغاية أثناء الحرب، ووصل حد الانهيار شبه الكلي، وهذا انعكس سلبًا وبدرجة كبيرة على الخدمة الصحية المقدمة والمستفيدين منها."

ويرجع الشرعبي في حديث خاص السبب إلى:"ناهيك عن الواقع المتردي للقطاع الصحي اليمني سابقا، والتعامل مع هذا القطاع من قبل الجهات الرسمية كفرص استثمارية وتسويقها للمستثمرين كمشاريع مدرة لأرباح كبيرة، وهذا الرؤية جعلت القطاع الصحي في اليمن قبل الحرب مشلولا، وزادت الحرب حدة شلل القطاع، كما أن الوضع الاقتصادي المتردي انعكس سلبا على الفرد والذي صار لا يملك ما يجعله يضع الصحة ضمن الأولويات، فمع وصول الحالة الاقتصادية للفرد مرحلة الانهيار وعدم القدرة على توفير لقمة العيش بانتظام، نتج عنه إلغاء مفهوم الصحة".

اليمن وأهداف التنمية المستدامة

 وترتفع حصة اليمن من وفيات الأطفال حديثي الولادة (0-27يوما) أيضا لكل 1000 مولود حي على المستوى الإقليمي في عام 2021 إلى حوالي 24.5% من وفيات الأطفال حديثي الولادة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إذ تشير البيانات إلى أن معدل وفيات الأطفال حديثي الولادة في اليمن عام 2021 بلغ 28.31 حالة وفاة مقارنة بمعدل بلغ 17.55 وفاة في العالم وبمعدل بلغ 11.96 وفاة في الشرق الأوسط وشمال افريقيا.. وتمثل وفيات الأطفال حديثي الولادة نسبة كبيرة من وفيات الأطفال دون سن الخامسة وتعتبر مؤشرًا يعكس صحة ورعاية الأمهات والمواليد الجدد.

ويشير الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة إلى معدل وفيات مواليد يبلغ 12 حالة وفاة لكل 1000 مولود حي بحلول عام 2030.. ومع الوضع الحالي في اليمن ومؤشرات معدل وفيات الأطفال حديثي الولادة فإنه سيكون من الصعب على البلد تحقيق أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بتخفيض وفيات الأطفال المواليد. يقول الصحفي الشرعبي: "جاءت الحرب وألقت بضلالها على هذا القطاع، وكانت المرأة هي من دفعت الثمن، بل تعاظم الثمن مع فقدان كثير نساء لأعمالهن ومصادر دخلهن التي كن يعتمدن على جانب منها للصحة الانجابية، وهذا كان نتيجة لاختلال في هدف أخر من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة فبالنظر إليها، نجد أنها متداخلة مع بعضها بعض وتأثر أي هدف سلبًا يكون انعكاسًا للتأثر السلبي لأهداف أخرى".

ويشير إلى أن "تراجع الاهتمام بالصحة الانجابية والأمومة والطفولة في اليمن، لم يكن إلا نتيجة لاختلال في هدف أخر ضمن أهداف التنمية المستدامة، المتمثل بفشل تمكين المرأة من حقها في العمل والمساواة بينها وبين الرجل في الحصول على العمل، كما هو متعارف عليه في واقعنا اليمني، الصحة الانجابية من الاختصاصات التي يرمى ثقل حملها على المرأة فهي تتولى مسؤولية الاهتمام بصحتها الانجابية وكل ما يتصل بذلك، لكون كثير من الأزواج يعتبرون مجرد الخوض في هذا المجال انتقاص لهم، وأنه من المعيب الحديث عن أمور تخص النساء."!

توصيات

 ولذلك وأمام هكذا وضع فإن الأمر يتطلب الآتي: 

-  استمرار الجميع - حكومات ومنظمات دولية ومحلية وكل الفاعلين– في العمل بشكل أكبر والتعاون الوثيق من أجل ضمان توفير الرعاية اللازمة لكل النساء في اليمن وخاصة الرعاية التوليدية.

-   ضرورة اضطلاع الدولة بدورها في مجال بناء قطاع صحي عام متكامل، وضمان شمولية تقديم خدماته للجميع برسوم مخفضة، وخدمات الصحة الانجابية مجانا.

-   تسهيل الوصول لخدمات تنظيم الأسرة وتحسين الوصول الى رعاية الحوامل، ورعاية الطوارئ التوليدية.

-   معالجة الاختلال في مجال التمكين الاقتصادي للمرأة.

-   تدريب الكوادر الصحية وتوسيع خدمات القبالة المدربة أثناء الولادة تشجيع الإقبال على دراسة تخصص خدمات الصحة الانجابية وتقديم الدعم والحوافز للمقبلين على هذا التخصص، وصولا إلى تحقيق تغطية شاملة للصحة الإنجابية.

-     تخصيص برامج توعية مستمرة وهادفة في مجال الصحة الانجابية، لرفع مستوى الوعي المجتمعي بأهمية هذا المجال.