زين العابدين بن علي

هاجر قاسم -اسم مستعار- في الثلاثين من عمرها، نازحة في مخيم "الجفينة" بمأرب، لم تكن تعلم أن فيروس كورونا سيترك أثرًا دائمًا سيلازمها للأبد.

منذ أربعة شهور، تحمل هاجر طفلها البالغ من العمر عامين إلى مركز العلاج الطبيعي يومين أسبوعيًا، أملاً في تعافيه من ضمور الدماغ الناتج عن الولادة المنزلية.

"في نوفمبر2020م أثناء انتشار كورونا، جاءتني آلام الولادة، لكن تخوف أهلي وزوجي من فيروس كورونا وانتشاره خاصة بالمستشفيات، اضطرني للولادة في المنزل"، تقول هاجر، مضيفة: "لكن للأسف حصل عندي تعسر في الولادة أثّر على صحة طفلي، وها هو كما ترون أصيب بضمور في الدماغ".

وهاجر هي واحدة من 179 حالة ولادة متعسرة تم تسجيلها في محافظة مأرب خلال عامي الجائحة 2020/2021م، بحسب مديرة الصحة الإنجابية في مكتب الصحة بمأرب، نبيلة العيال، "إضافة إلى مئات الحالات التي تعرضت إلى نزيف أثناء الحمل أو بعد الولادة"، كما تقول.

من جهتها، جاءت أمل حسين، وهي نازحة في الـ 23 من العمر، إلى مستشفى محمد هائل في مدينة مأرب لمتابعة الحمل والاطمئنان على وضع جنينها، مؤكدة: "لا أريد تكرار مأساتي التي حدثت قبل عامين"؛ إذ فقدت جنينها في شهره الخامس، نتيجة لغياب الرعاية الصحية في مخيم "السويداء" الذي تسكنه شمال مارب.

تقول أمل: "المانع الأكبر من متابعة الحمل في مستشفيات المدينة حينذاك هو التخوف والرعب من التقاط فيروس كورونا، في ظل الأخبار المنتشرة القائلة بأن المشافي من أكثر البؤر المعرضة لتفشي الفيروس".

وسجل مكتب الصحة في المحافظة 469 حالة إجهاض خلال العام 2020م، و731 حالة العام 2021م، "وتعد جائحة كورونا وارتفاع وتيرة العنف والصراع والحرب خلال هذين العامين من أبرز أسباب ارتفاع حالات الإجهاض في مارب"، بحسب العيال.

وتحول الحالة الاقتصادية الصعبة للنازحات دون ولادتهنّ في مشافي المدينة، فالمستشفيات الخاصة لا تقل تكاليف العملية القيصرية فيها عن 300$، فيما لا يتجاوز عدد المستشفيات الحكومية أصابع اليد الواحدة، إحداها فقط مخصص لأمراض النساء والولادة، في محافظة يصل عدد سكانها والنازحين إلى 3 ملايين نسمة.

صعوبة الوصول

وفي خيمة في صحراء السميا شرق مدينة مأرب، تتطوع القابلة ريسة ربيع، 40 عامًا، في تقديم الرعاية الصحية للنساء والحوامل منهنّ على وجه التحديد، تقول: "منذ ست سنوات وأنا أقدم الرعاية الصحية والإنجابية للنازحات، تنقلت في أكثر من مخيم نتيجة الحرب وموجات النزوح الداخلي المستمرة".

تقوم ريسة بعملها بجهود ذاتية وإمكانات شحيحة في ظل غياب كل ما هو ضروري وأساسي، "أعمل بسرير ولادة وحيد، وأدوات طبية محدودة، مع غياب تام للتيار الكهربائي في المخيم في الوقت الذي تتجاوز فيه حرارة الصيف 40 درجة، في هذه الخيمة المتواضعة".

هذه "الخيمة المهترئة"، بنظر النازحات هنا، بمثابة عيادة تخصصية يحلمنّ بالوصول إليها عند المرض، تقول النازحة مريم محسن، 28 عامًا: "خيامنا بعيدة عن العيادة لأن المخيم مترامي الأطراف، ومع جائحة كورونا فقد أزواجنا مصادر دخلهم، ما ضاعف من معاناتنا، لذلك بعض الأسر لا تستطيع استئجار سيارة لتوصيل المرأة أثناء المخاض"، ويضيف زوجها: "تركنا منازلنا وكل ممتلكاتنا هربًا من الحرب والقصف، وهنا نعمل بالأجر اليومي لتوفير متطلبات الحياة، إلا أن كورونا عطلت الحياة وأوقفت الأعمال، فكانت القاضية بالنسبة لنا".

تضطر ريسة للذهاب بسيارة زوجها إلى خيام النساء البعيدة وتوليدهنّ فيها، "رغم صعوبة التوليد وعدم ملائمة المكان، لكنها الضرورة"، وتقول النازحة مريم، التي يستطيع أهلها نقلها إلى خيمة ريسة للولادة أو تلقي العلاج، إن خيمتها بالنسبة لها "كأنها أفضل مستشفى".

وفي دراسة أجرتها مجلة الصحة العالمية "لانسيت" عام 2018م، فإن ما يقرب من 8.8 مليون يمني يعيشون على بعد 30 دقيقة من أقرب منشأة للرعاية الصحية الأولية، وأن أكثر من 12 مليونًا يعيشون على بعد ساعة من أقرب مستشفى عام، ويعيش حوالي 40% من اليمنيين على بعد ساعتين من المرافق التي توفر الرعاية التوليدية والجراحة الطارئة الشاملة، وهذا يترك آثاره على صحة وسلامة النازحين والنازحات.*

وتستقبل محافظة مأرب، الواقعة على بعد 170 كم شرق العاصمة صنعاء، أكثر من مليوني نازح/ـة في 140 مخيمًا، بحسب الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين، معظمهم/هنّ يفتقرون/نّ لأبسط الخدمات الصحية، إذ لا تزيد مراكز الرعاية الصحية في هذه المخيمات عن 11 مركزًا، أي مركزًا واحدًا لكل 12 مخيمًا، ويفتقر بعض هذه المراكز إلى الكادر الطبي والأدوات والتجهيزات اللازمة، وبالتالي هناك فجوة كبيرة بين عدد النازحين/ات والخدمات الصحية المقدمة، وهو ما ضاعف معاناة الجميع وخاصة النازحات، نظرًا لاحتياجهنّ لمراكز متخصصة بأمراض النساء والولادة والصحة الإنجابية عمومًا.

وقد زاد الوضع سوء وتعقيدًا انتشار جائحة كوفيد 19، وتحول مخيمات النزوح إلى بيئة ملائمة لتفشي الوباء، وذلك جراء حالة التكدس وهشاشة الأوضاع السكنية والمعيشية، وتردي الخدمات الأساسية، وانعدام الأمان البيتي، والصحي والافتقار إلى البنى الصحية المطلوبة، وصعوبة الذهاب للعلاج في مستشفيات المحافظة بسبب انعدام القدرة المادية لدى كثيرين.

وكانت الحكومة اليمنية قد أعلنت تسجيل أول حالة إصابة مؤكدة بكوفيد 19 في مأرب في 13مايو/ آيار 2020م، بعد تسجيل 70 حالة إصابة في محافظات أخرى*.

تدخلات غير كافية

تعمل قرابة ٢٦٠ منظمة محلية ودولية في محافظة مأرب في مختلف المجالات الإغاثية والإنسانية، نتيجة التدفق الكبير للنازحين على المحافظة الذين يمثلون قرابة 60% من إجمالي النازحين في اليمن، بحسب الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النزوح.

ومع وصول جائحة كوفيد 19 إلى مأرب، اتجهت معظم المنظمات للعمل في مواجهتها على حساب بقية التدخلات الأخرى، تؤكده القابلة ريسة بقولها: "تقلصت إلى حد كبير التدخلات الصحية من قبل المنظمات في مخيمات النزوح، نتيجة اتجاه القطاع الصحي بأكمله للتوعية بالجائحة وتوفير متطلبات الوقاية منها".

معظم التدخلات الصحية للمنظمات في غالبية المخيمات ليست دائمة؛ إذ تقدم الخدمات الصحية من خلال فرق ميدانية متنقلة ولساعات محدودة فقط، تقول الممرضة منيرة ناصر: "كفريق صحي نتبع إحدى المنظمات الدولية، نعمل 6 ساعات يوميًا فقط، ففي المساء لا توجد أي خدمات صحية في أغلب المخيمات، يعني المرأة التي تأتيها الولادة بالليل لا أحد يصنع لها شيئًا".

وتتذكر منيرة إحدى القصص المؤلمة خلال الجائحة بقولها: "كانت هناك نازحة حامل في آل شبوان وتعاني من فقر الدم، وهي أم لـ 8 أطفال وفقد زوجها عمله بسبب كورونا، وضعت طفلها في الليل، لكنها بقيت تنزف حتى الصباح، فلا وجود لمراكز الرعاية الصحية بالقرب منها، ولا إمكانية لديهم لإسعافها إلى المدينة، وعند محاولة إسعافها في الصباح من قبل جيرانها كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة".

من جهتها، تقول رئيسة مؤسسة وجود للأمن الإنساني، مها عوض: "معاناة النازحات من توفر الرعاية الصحية وخاصة الإنجابية تعكس ضعف تدخلات الاستجابة الإنسانية والطارئة للبرامج والخدمات بمراعاة النوع الاجتماعي في تلبية احتياجات وأولويات النساء النازحات في المخيمات، والتي يتزايد فيها انتشار العنف القائم على النوع الاجتماعي".

ويشهد اليمن، بحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان، أحد أعلى معدلات الوفيات بين الأمهات في المنطقة العربية*، وفي بيان له في مارس 2022م، قال الصندوق: "تموت امرأة كل ساعتين أثناء الولادة نتيجة محدودية أو انعدام الوصول للخدمات"*.

وعلى الرغم من ضعف التدخلات الصحية في المخيمات، إلا أن هناك محاولات لتخفيف المعاناة، يقول القائم بأعمال ممثل صندوق الأمم المتحدة للسكان في اليمن، هشام نهرو، إن الصندوق استمر في تقديم الرعاية الصحية الإنجابية للمجتمعات النازحة والمستضيفة في محافظة مأرب دون أن تتأثر أو تتراجع نتيجة جائحة كوفيد 19، مضيفًا: "تم الوصول إلى أكثر من 67 ألف امرأة بخدمات الصحة الإنجابية خلال العام 2020م، وأكثر من 116 ألف امرأة خلال العام 2021م، وتشمل هذه الخدمات رعاية ما قبل وبعد الولادة وتنظيم الأسرة وعمليات التوليد ورعاية المواليد".

الآثار التمييزية للجائحة

تعرضت النازحات على وجه الخصوص للتمييز والعنف في مخيمات تفتقر لأساسيات المعيشة، بحسب الناشطة مها عوض، التي تقول إن "معاناة النازحات تفاقمت خلال الجائحة في ظل غياب التركيز على توجيه الخدمات الوقائية والعلاجية لتلبية الاحتياجات الصحية والنفسية في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، مع عدم المساواة في وصول النازحات إلى الموارد، وزاد الأمر تعقيدًا تعرضهنّ لمخاطر العنف والتمييز".

وبالإضافة إلى الحرب وتردي الوضع الاقتصادي وغياب الرعاية الصحية في مخيمات النزوح، تساهم الأعراف اليمنية الصارمة في زيادة معاناة النساء والفتيات أثناء الجائحة وبعدها. فليس من المقبول عند غالبية الأسر اليمنية غياب المرأة عن منزلها، والسماح لها بالمبيت خارج المنزل، لذلك فقد حرمت المصابات بفيروس كوفيد 19 من تلقي الرعاية اللازمة في مراكز العزل.

تروي النازحة عليا عبدالواحد تجربتها بالقول: "وضعنا في مخيمات النزوح يجبرنا على الاحتكاك ببعض، فنحن في خيام ولسنا في منازل، وعندما ظهرت عليّ أعراض الفيروس وفقدت حاستي الشم والتذوق ارتعبت كثيرًا، وددت أن انتقل إلى مستشفى أو مركز للعزل، لكن من المستحيل أن يسمح لي أهلي بالمبيت بعيدًا عن البيت، فالتقاليد تنص على هذا".

وقد "خصصت مراكز العزل للرجال فقط، إلا من بعض الأقسام البسيطة للنساء كبار السن، كما أن المرأة عند الاشتباه بإصابة زوجها أو أباها او أخاها تقوم بكامل الرعاية المنزلية له دون أي احترازات أو وقاية، فيما لو كان الاشتباه عند المرأة لن تجد الرجل يقوم على رعايتها إلا بإجراءات وقائية أو تقوم بالرعاية امرأة أخرى في المنزل"، بحسب الناشطة المجتمعية أروى صادق.

ولم يقتصر الأمر على المريضات فحسب، وإنما شمل الممرضات أيضًا، إذ منع العديد من الأهالي قريباتهنّ الممرضات من مزاولة المهنة خوفًا من التقاط العدوى من المصابين القادمين إلى المستشفيات والمراكز الصحية، وبما أن العادات اليمنية لا تسمح بحصول النساء على الرعاية الصحية إلا لدى طبيبة أو ممرضة، فاقم غياب الممرضات من معاناة النساء، وزاد من صعوبة حصولهنّ على الرعاية الصحية اللازمة.

تتحدث الممرضة سبأ ثابت -اسم مستعار- 27 عامًا، أن أباها منعها من مزاولة عملها خلال الجائحة على الرغم من الاحتياج الشديد لها وضعف الكادر الصحي في منطقتها، وتضيف: "بسبب منعهم لي آلمني ضميري وخسرت عملي، كما أن والدي أصيب بالفيروس بعد ذلك، وعملت على ممارضته إلا أنه توفي بعد شهر من إصابته".

وحتى بعد توفر اللقاحات، منعت الكثير من الأسر النساء من الحصول على جرعات اللقاح تخوفًا من مضاعفاته الجانبية، تقول النازحة أسماء علي: "منعني زوجي من الحصول على اللقاح خوفًا من الآثار الجانبية التي قد تؤثر على الإنجاب مستقبلًا"، وبحسب مكتب الصحة فإن 38500 جرعة من اللقاح حصلت عليها الإناث في مأرب مقابل 57800 جرعة حصل عليها الذكور.

تقول الصحفية عبير واكد التي تنشط في مجالات حقوق المرأة والإنسان إن "الوضع الإنساني للنازحات وغياب التثقيف الصحي في الصحة الإنجابية يزيد من مشاكلهنّ، وخاصة عدم القدرة على المباعدة بين المواليد، الأمر الذي ينهك صحتهنّ في ظل انعدام المراكز الصحية في أغلب المخيمات".

أما الناشطة خديجة صالح، 25 عامًا، فتؤكد أن معاناة النازحات "لا تُحتمل، فهنّ الفئة الأكثر تعبًا وإرهاقًا في المجتمع، لا سيما اللواتي يواجهنّ قساوة الظروف والإهمال الأسري وغياب الرعاية الصحية والنفسية وأبسط الحقوق الآدمية، ناهيك عن الحقوق الجندرية التي ضمنتها الاتفاقيات الدولية"، وتضيف أن " نشر التوعية في أوساط النازحات سيساهم كثيرًا في التخفيف من هذه المعاناة".

وتنص المادة 12 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، أن تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في ميدان الرعاية الصحية، من أجل أن تضمن لها، على أساس المساواة بين الرجل والمرأة، الحصول على خدمات الرعاية الصحية، بما في ذلك الخدمات المتعلقة بتنظيم الأسرة، وتكفل الدول الأطراف للمرأة خدمات مناسبة فيما يتعلق بالحمل والولادة وفترة ما بعد الولادة، موفرة لها خدمات مجانية عند الاقتضاء، وكذلك تغذية كافية أثناء الحمل والرضاعة.

تم إنتاج هذه المادة في إطار مشروع "أما بعد" بدعم من الوكالة الفرنسية لتنمية الإعلام