منال شرف

كانت تعي جيدًا أهمية "غيلها"، بحثت في تاريخه كما يجب، ونقبت عن جماله الذي طمرته السنوات، كما تقول، وخلصت إلى نتيجة واحدة؛ "لم يتوجب عليَّ ابتكار شيء جديد، ثمّ ماضٍ هنا يستحق البعث".

وفي حين وجدتها مهمة صعبة، قررت مريم باكحيل، 26 عامًا، وهي ناشطة إعلامية، أن تبدأ رحلتها في إعادة أمجاد المدينة التي تستذكرها بالقول: "سمعت كثيرًا وأنا صغيرة عن تاريخ غيل باوزير وتراثه، عن فرقه المسرحية، ودور المدرسة الوسطى في الحركة الطلابية أيام الاستعمار البريطاني، وتخريجها لأسماء كبيرة وشخصيات بارزة".

 

صدمة مبكرة

تميزت مديرية غيل باوزير بكونها واحدة من أهم مدن حضرموت ثقافيًا وتاريخيًا، إلا أنها تعرضت للخمول الثقافي على الرغم من مقوماتها الثقافية والفنية، ما دفع مريم للتركيز عليها دون سواها، "تعمدت تسمية مشروعي بإعادة الحراك الثقافي الفني بمديرية غيل باوزير لأنه ليس بالجديد عليها، وسعيت فقط لاستعادة شيء كان موجودًا من الأساس قبل أن يتعرض للجمود؛ كنتيجة لتوقف أنشطة المدرسة الوسطى ومكتب الثقافة".

قررت مريم تنفيذ مشروع لإحياء التراث الثقافي والفني في مديريتها غيل باوزير بمنحة حصلت عليها من مركز الإعلام الثقافي، "وكان اسمه إعادة الحراك الفني والثقافي بالمدرسة الوسطى"، لكنّ صدمة مبكرة أوقفتها قليلًا في فترة الترتيب لتنفيذ المشروع، تقول: "تفاجأت بمشكلة إغلاق المدرسة لتوقف أعمال ترميمها، ووقفت عاجزة لأنها كانت ستحتضن الفعاليات مجانًا".

لم تستسلم مريم، بحثت عن حلول بديلة حتى تمكنت من إقامة المشروع في جمعية التنمية الاجتماعية، بعد أن سارع مديرها أحمد بكران لاستضافتها وأنشطتها دون مقابل مالي، حد قولها.

 

 

حراك مكثف

المشروع الذي أطلقته مريم بمعية فريق "ملتقى لأجلك الشبابي المجتمعي" شمل عديد أنشطة ثقافية وفنية، "بدأت بندوة ثقافية بثت عبر الزووم لمناقشة الجانب التعليمي والتراثي في مدينة غيل باوزير، ثم انتقلت لدورة الرسم الحديث مع زميلتي عبير الحضرمي، والتي هدفنا من خلالها للجمع بين إضافة اللمسات الحديثة للوحة والتعبير عن قضايا الثقافة في المديرية".

"اِعتقد البعض أننا جئنا لنلغي عادات وتقاليد البلاد على الرغم من كل ذلك، ولكنّ إقبال الطاقات الشبابية الشغوفة للفكرة وحضور الهامات الثقافية كانا كبيرين"

وتمثلت المرحلة الثالثة من المشروع، بحسب مريم، في إقامة دورة المسرح الهادف، "إذ جمعنا شابات وشبابًا دربناهم على أسس العمل المسرحي والأداء التمثيلي الهادف، لضمان أن يخدم المسرح القضايا المجتمعية، كما أقمنا مسابقة لأفضل قصيدة شعرية تتكلم عن تاريخ الغيل، وفازت بها قصيدة: معراش في رحاب الوسطى، للشاعر علي السومحي".

أقامت بعدها مريم ندوة فنية عن الفن التشكيلي كمهنة وهواية، استضافت فيها الفنانة التشكيلية شذا التوي، ومدير مكتب الثقافة في المديرية، الفنان التشكيلي أكرم باجحيزل، لتختتم مشروعها بمهرجان ومعرض فني وثقافي، جمعت فيه مبدعين من غيل باوزير في عدد من النواحي الفنية؛ وذلك لعرض أعمالهم الأدبية ومخرجات دورة الرسم الحديث، إضافة إلى عرض مسرحي وفقرات تراثية وتاريخية وموسيقية.

 

تحرك بهدوء

عملت مريم قبل مباشرة تنفيذ الأنشطة على إلغاء الأفكار التي لا يمكن للمجتمع تقبلها؛ كنتيجة لطبيعته المحافظة التي أصبح عليها، تقول: "درست طبيعة المنطقة لأتمكن من تجاوز الصعوبات والتعامل معها بشكل صحيح، قلت في نفسي: لنتحرك بهدوء حتى نكسب تقبل المجتمع، ونمهد الطريق لاستعادة الحراك الثقافي على مراحل".

"لغيل باوزير خصوصية ثقافية متميزة تعطي المرأة بعض حقوقها على غير عادة مناطق أخرى مجاورة، وهو ما ساعد مريم على النجاح في مشروعها النوعي"

وتضيف: "اِعتقد البعض أننا جئنا لنلغي عادات وتقاليد البلاد على الرغم من كل ذلك، ولكنّ إقبال الطاقات الشبابية الشغوفة للفكرة وحضور الهامات الثقافية كانا كبيرين، أشعرني ذلك بمدى التقبل من الجيلين القديم والجديد"، مؤكدة أن تفاعل المتدربين في مختلف الدورات التي أقيمت ضمن المشروع كان يدعوها للفخر، "لدرجة أن بعضهم أحضروا أدواتهم الخاصة على الرغم من توفيرنا الأدوات".

 

أمل مدفون

"سعدنا كثيرًا بالجهود المبذولة من قبل الشابات والشباب الموهوبين، واهتمامهم بثقافة منطقتهم، وإظهار موروث الأجداد بقالب من الحداثة"، يقول مدير عام مكتب الثقافة بالمديرية، أكرم باجحيزل، عن رأيه بجهود مريم وفريقها الذين "تمكنوا من إثبات أنفسهم وقدراتهم على الرغم من بساطة الدعم، ما يعتبر إنجازًا لا مثيل له في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها اليمن".

ولفت تنوع الفنون والأنشطة التي شملها المشروع أنظار باجحيزل الذي أكد: "حركت الأنشطة في النفس أملًا مدفونًا بجمال الغد"، مشيرًا إلى أن لغيل باوزير "خصوصية ثقافية متميزة تعطي المرأة بعض حقوقها على غير عادة مناطق أخرى مجاورة، وهو ما ساعد مريم على النجاح في مشروعها النوعي".

"تبقى موجودة"

تقول مريم إنها واجهت صعوبات كثيرة أثناء عملها لكونها فتاة، وهي أمور اعتادت عليها سابقًا ما سهل تجاوزها، لكنّ وجود "كثير من الفتيات الموهوبات في المديرية يخفنّ من نظرة أفراد المجتمع ومن ردة فعلهم" كان يثير قلقها، ويمثل حجر عثرة أمامها، وتضيف: "بعض الأشخاص قد يتقبلونكِ لكنهم يرفضونه مع بناتهم؛ بعضهم يتعلق الأمر معهم بمجالات معينة، وآخرون يرفضون عمل المرأة وحضورها من الأساس، صحيح أنها ليست نظرة الجميع بشكل عام، ولكنها تبقى موجودة".

وعلى عكس ما كانت تتوقعه، التقت مريم بأسر أبدت اهتمامها بحضور النشاطات المختلفة للمشروع رفقة أبنائها، بينها والدة ظلّت تجلب بنتها لدورة المسرح دون كلل، وكانت سعيدة وهي تراها تُفرغ طاقاتها في الهواية التي تحبها، بحسب مريم.

 

المدرسة الوسطى مجددًا

تسعى مريم لمواصلة مشروعها بقالب جديد وفي المدرسة الوسطى هذه المرة، وهي مدرسة تاريخية نُقلت من مدينة المكلا إلى الغيل أيام السلطنة القعيطية؛ لكون الغيل، بحسب مريم، "أرض مهيئة للتعليم والثقافة"، الأمر الذي أثمر في نجاح العملية التعليمة للمدرسة الوسطى، "والتي لا تزال تُذكر حتى اللحظة".

كانت مريم ولا تزال مفتونة بغيلها ومعالمه دون استثناء، كما تقول، ومؤمنة أن فيه شابات وشباب موهوبون يستحقون أن تبذل جهدها معهم لإحياء الغيل ثقافيًا وفنيًا، وتعريف الآخرين به، "فأي معنى للفرد دون معرفة بجذوره؟!".